الْحَدَّ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ يُجْلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ.
ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ " الْبَغْيُ " بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ: يَكُونُ ذَنْبًا، وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ: بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ " إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِمُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ تِلْكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ، وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمُعَسْكَرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ: كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرِهِ؛ بَلْ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ، حَتَّى مُعَاوِيَةَ، وَعَمْرٍو.
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَأَوَّلَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ؛ دُونَ مُقَاتِلِيهِ: وَأَنَّ عَلِيًّا رَدَّ هَذَا التَّأْوِيلَ بِقَوْلِهِ: فَنَحْنُ إذًا قَتَلْنَا حَمْزَةَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ هُوَ الصَّوَابُ؛ لَكِنْ مَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْمُتَنَاظِرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَلَا مُلْكٌ، وَأَنَّ لَهُمْ فِي النُّصُوصِ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِكَثِيرٍ. وَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ لَمْ يَرَ أَنَّهُ قَتَلَ عَمَّارًا، فَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ بَاغٍ وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاغٍ: فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ مُخْطِئٌ.
وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ رَأْيُهُ الْقِتَالُ مَعَ مَنْ قَتَلَ عَمَّارًا؛ لَكِنْ لَهُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ: مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مَعَ عَمَّارٍ وَطَائِفَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْقِتَالِ مُطْلَقًا. وَفِي كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ.
فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَمَّارٌ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ. وَفِي الثَّانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُمْ. وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَسْكَرَيْنِ بَعْدَ عَلِيٍّ أَفْضَلُ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ مِنْ الْقَاعِدِينَ.
" وَحَدِيثُ عَمَّارٍ " قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ رَأَى الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَاتِلُوهُ بُغَاةً فَاَللَّهُ يَقُولُ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: ٩] وَالْمُتَمَسِّكُونَ يَحْتَجُّونَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute