عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» . فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَاصِدِينَ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ رَاغِبِينَ فِيهِ، لَكِنْ عَجَزُوا فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ بِخِلَافِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَا عِبَادَةٌ أَصْلًا، بِخِلَافِ أُولَئِكَ فَإِنَّ لَهُمْ قَصْدًا صَحِيحًا يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُذْنِبًا، لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجُنُونِ بِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ تَهَوُّدِهِ وَتَنَصُّرِهِ مَحْشُورًا مَعَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُتَّقِينَ، وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ صَاحِبُهُ مُولِهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حَالِ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.
وَلَا يَكُونُ زَوَالُ عَقْلِهِ سَبَبًا لِمَزِيدِ خَيْرِهِ وَلَا صَلَاحِهِ وَلَا ذَنْبِهِ، وَلَكِنَّ الْجُنُونَ يُوجِبُ زَوَالَ الْعَمَلِ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ وَلَا يَنْقُصُهُ، لَكِنَّ جُنُونَهُ يُحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْخَيْرِ، كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ، أَوْ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ الْمُلَحَّنَ فَيَسْتَمِعَ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ، أَوْ الَّذِي يَتَعَبَّدُ بِعِبَادَاتٍ بِدْعِيَّةٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ، فَيُغَيِّرُوا عَقْلَهُ أَوْ يَأْكُلَ بَنْجًا يُزِيلُ عَقْلَهُ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا أَزَالُوا بِهِ الْعُقُولَ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَجْلِبُ الْحَالَ الشَّيْطَانِيَّ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ. فَيَرْقُصَ رَقْصًا عَظِيمًا حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ، أَوْ يَغُطَّ وَيَخُورَ حَتَّى يَجِيئَهُ الْحَالُ الشَّيْطَانِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقْصِدُ التَّوَلُّهَ حَتَّى يَصِيرَ مُولِهًا، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُمْ مُكَلَّفُونَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ، وَالْأَصْلُ مَسْأَلَةُ السَّكْرَانِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ مُكَلَّفًا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute