ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ جَاءُوا إلَى الْبَحْرِ فَوَجَدُوا الزَّيْتَ عَلَى الْمَاءِ، فَجَمَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَالْمَرْكَبُ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، فَهَذَا الزَّيْتُ الْمَجْمُوعُ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ وَمَرْكَبُ رُمَّانٍ غَرِقَتْ، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا انْحَدَرَ فِي الْبَحْرِ، فَبَقِيَ كُلُّ أَحَدٍ يَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ صَاحِبٌ، فَهَلْ هُوَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟
الْجَوَابُ: الَّذِينَ جَمَعُوا الزَّيْتَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ قَدْ خَلَّصُوا مَالَ الْمَعْصُومِ مِنْ التَّلَفِ، وَلَهُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالزَّيْتُ لِصَاحِبِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الزَّيْتِ لِصَاحِبِهِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا إلَّا نِزَاعًا قَلِيلًا، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ بِأَنَّهُ قَالَ: هُوَ لِمَنْ خَلَّصَهُ. وَأَمَّا وُجُوبُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِمَنْ خَلَّصَهُ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ الْأُجْرَةِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُخَلِّصَ مُتَبَرِّعٌ وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ يَقُولُونَ: إنْ خَلَّصُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَأَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ خَلَصُوهُ لِأَجْلِ الْعِوَضِ فَلَهُمْ الْعِوَضُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُفْعَلْ لَأَفْضَى إلَى هَلَاكِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُخَلِّصُوهَا مِنْ الْمَهَالِكِ إذَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَالصَّحَابَةُ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ: أَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَّصَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُسْتَهْلَكًا، لَوْلَا أَخْذُ هَذَا، وَتَخْلِيصُهُ عَمَلٌ مُبَاحٌ لَيْسَ هُوَ عَاصِيًا فِيهِ، فَيَكُونُ الْمَالُ إذَا حَصَلَ بِعَمَلِ هَذَا، وَالْأَصْلُ لِهَذَا فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، لَكِنْ لَا تَجِبُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْبَيْنِ، فَيَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، فَإِنْ عَادَةَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مَنْ يُخَلِّصُ لَهُمْ هَذَا بِالْأُجْرَةِ، وَالْإِجَارَةِ تَثْبُتُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَنْ دَخَلَ إلَى حَمَّامٍ، أَوْ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ، وَكَمَنْ دَفَعَ طَعَامًا إلَى طَبَّاخٍ وَغَسَّالٍ بِغَيْرِ مُشَارَطَةٍ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ حَيَوَانًا فَخَلَّصَهُ مِنْ مَهْلَكَةٍ، مَلَكَهُ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَهُ حُرْمَةٌ فِي نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْمَتَاعِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لِحُرْمَةِ صَاحِبِهِ، فَهُنَاكَ تَخْلِيصُهُ لَحِقَ الْحَيَوَانَ وَهُوَ بِالْمَهْلَكَةِ قَدْ يَيْأَسُ صَاحِبُهُ، بِخِلَافِ الْمَتَاعِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَقُولُ لِلْمُخَلِّصِ كَانَ يَجُوزُ لَك مِنْ حِينِ أَنْ أَدَعَهُ، أَوْ الْحَقُّ فِيهِ لِي، فَإِذَا لَمْ تُعْطِنِي حَقِّي لَمْ آذَنْ لَك فِي تَخْلِيصِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute