يَسْكَرُوا سُكْرًا يُفَوِّتُونَ بِهِ الصَّلَاةَ، أَوْ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ الشُّرْبِ قَرِيبَ الصَّلَاةِ أَوْ نَهْيٌ لِمَنْ يَدِبُّ فِيهِ أَوَائِلُ النَّشْوَةِ. وَأَمَّا فِي حَالِ السُّكْرِ فَلَا يُخَاطَبُ بِحَالٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ.
الثَّانِي: أَنَّ عِبَادَتَهُ كَالصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ مَعَ السُّكْرِ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُهُ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى هَذَا بِخِلَافِ الشَّارِبِ غَيْرِ السَّكْرَانِ، فَإِنَّ عِبَادَتَهُ تَصِحُّ بِشُرُوطِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا يَقُولُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَنَقُولُ: كُلُّ مَنْ بَطَلَتْ عِبَادَتُهُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ، فَبُطْلَانُ عُقُودِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى كَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ قَدْ تَصِحُّ عِبَادَاتُ مَنْ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِنَقْصِ عَقْلِهِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ مَشْرُوطَةٌ بِوُجُودِ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ، فَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَلَا عَقْلَ لَيْسَ لِكَلَامِهِ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارٌ أَصْلًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .
فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَتَكَلَّمُ وَيَتَصَرَّفُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَوْ إثْبَاتُ مِلْكٍ، أَوْ إزَالَةٌ؟ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ مَعَ تَقْرِيرِ الشَّارِعِ لَهُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعُقُودَ وَغَيْرَهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَشْرُوطَةٌ بِالْمَقْصُودِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَقَدْ قُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي كِتَابِ: (بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ) وَقَرَّرَتْ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لِسَهْوٍ وَسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ عَدَمِ عَقْلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَأَمَّا إذَا قُصِدَ اللَّفْظُ وَلَمْ يُقْصَدْ مَعْنَاهُ: كَالْهَازِلِ، فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَصْدِ: الْعَقْلُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَقْلِ، فَأَمَّا الْقَصْدُ الْحَيَوَانِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute