للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَوْكِيدًا؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَا يَجِبُ أَنْ يُقَيِّدَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ وَيُخَصِّصَهُ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايَرَةِ الْحَاصِلَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ؛ بِخِلَافِ الصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا مُقَيِّدَةٌ؛ وَكَذَلِكَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَطْفِ؛ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْعَطْفِ الْمُغَيِّرِ وَغَيْرِ الْمُغَيِّرِ فِي " بَابِ الْإِقْرَارِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعُقُودِ ".

وَمَنْ رَامَ أَنْ يَجْعَلَ الْكَلَامَ مَعْنًى صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَوَّلَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ كُفْرًا وَآخِرَهَا إيمَانًا؛ وَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا قَدْ كَفَرَ؛ ثُمَّ آمَنَ. فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْخَبَالِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَلِمَةٌ أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إيمَانٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: مَا هِيَ؟ فَقَالَ: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ. قُلْت قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَهَا لَوْ سُكِتَ عَلَيْهِ كَانَ كُفْرًا؛ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا كُفْرٌ مَعَ اتِّصَالِهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا لَكَانَ قَدْ كَفَرَ.

وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى. وَغَلِطَ بَعْضُهُمْ فَظَنَّ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ. كَانَتْ الْأَلْفُ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِجُمْلَةِ الْعَدَدِ؛ وَلَمْ يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا عَنْ صِلَةٍ؛ وَذَلِكَ الشَّرْطُ قَدْ زَالَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنَّمَا فُهِمَ الْمَعْنَى هُنَا بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ؛ لَا بِنَفْسِ الْأَلْفِ. فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى تِسْعمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَهَذِهِ شُبْهَةُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ تَخْصِيصًا مُتَّصِلًا مَجَازًا. كَالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ تَخْصِيصًا مُنْفَصِلًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ.

وَسِيَاقُ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ وُصِلَ بِوَصْفٍ: أَوْ عَطْفِ بَيَانٍ؛ أَوْ بَدَلٍ؛ أَوْ أَحَدِ الْمَفْعُولَاتِ الْمُقَيِّدَةِ، أَوْ الْحَالِ، أَوْ التَّمْيِيزِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَجَازًا.

وَفَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِاللَّفْظِ الدَّالَّةِ بِالْوَضْعِ وَبَيْنَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْوَضْعِ - كَقَوْلِهِ: رَأَيْت أَسَدًا يَكْتُبُ، وَبَحْرًا رَاكِبًا فِي الْبَحْرِ - وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمُنْفَصِلَةِ مَعْلُومٌ يَقِينًا مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَمَعَ هَذَا فَلَا رَيْبَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ؛ وَأَنَّ دَلَالَتَهُ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ دَالًّا دُونَ آخِرِهِ؛ سَوَاءٌ سُمِّيَ أَوَّلُهُ حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا وَلَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَوَّلَهُ يُعَارِضُ آخِرَهُ. فَإِنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ.

وَالْكَلَامُ الْمُتَّصِلُ كُلُّهُ دَلِيلٌ وَاحِدٌ، فَالْمُعَارَضَةُ بَيْنَ أَبْعَاضِهِ كَالْمُعَارَضَةِ بَيْنَ أَبْعَاضِ الْأَسْمَاءِ الْمُرَكَّبَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>