الْجُنُبُ يَدَهُ فِيهِ، هَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ غَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ يَدَهُ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ: كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ الْغُسْلَ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ، فَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الْغُسْلِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا، وَإِنْ نَوَى مُجَرَّدَ الِاغْتِرَافِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا.
وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ الْإِنَاءِ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ» كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْهُ فِي الْجَنَابَةِ وَلَمْ يُحَرِّجْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. بَلْ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ: أَكْثَرَ تَوَضُّؤَ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِسَالِهِمْ عَلَى عَهْدِهِ كَانَ مِنْ الْآنِيَةِ الصِّغَارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ جَمِيعًا، فَمَنْ جَعَلَ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا بِذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّقَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ قَوْلِ مَنْ يُنَجِّسُ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ. قِيلَ: هَذَا أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ نَجَاسَةٌ حِسِّيَّةٌ: كَنَجَاسَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ. وَلَيْسَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَوَارِدِ الظُّنُونِ، بَلْ هِيَ قَطْعِيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَى جَابِرٍ» ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، كَمَا يَأْخُذُونَ نُخَامَتَهُ، وَكَمَا اقْتَسَمُوا شَعْرَهُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
فَمَنْ نَجَّسَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ شُعُورَ الْآدَمِيِّينَ، بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَجَّسَ الْبُصَاقَ كَمَا يُرْوَى عَنْ سَلْمَانَ. وَأَيْضًا فَبَدَنُ الْجُنُبِ طَاهِرٌ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَاءُ الطَّاهِرُ إذَا لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا لَمْ يُنَجَّسْ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ طَهَارَةً، وَأَنَّهَا ضِدُّ النَّجَاسَةِ فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute