وَأَيْضًا فَإِنَّ الصِّدِّيقَ اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى إقَامَةِ الْمَنَاسِكِ الَّتِي لَيْسَ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ أَشَكْلُ مِنْهَا، وَأَقَامَ الْمَنَاسِكَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَى: «أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» فَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِيَنْبِذَ الْعَهْدَ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا لَحِقَهُ قَالَ: أَمِيرًا أَوْ مَأْمُورًا؟ قَالَ: بَلْ مَأْمُورًا. فَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَكَانَ عَلِيٌّ مِمَّنْ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْمَعَ وَيُطِيعَ فِي الْحَجِّ وَأَحْكَامِ الْمُسَافِرِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ هَذَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِي اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِيهَا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ مَعْذُورٌ أَوْ مُذْنِبٌ فَلَحِقَهُ عَلِيٌّ فَقَالَ أَتَخْلُفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» .
بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْتِخْلَافَ عَلِيٍّ عَلَى الْمَدِينَةِ لَا يَقْتَضِي نَقْصَ الْمَرْتَبَةِ، فَإِنَّ مُوسَى قَدْ اسْتَخْلَفَ هَارُونَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمًا يَسْتَخْلِفُ رِجَالًا، لَكِنْ كَانَ يَكُونُ بِهَا رِجَالٌ. وَعَامَ تَبُوكَ خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزَاةِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ كَانَ شَدِيدًا، وَالسَّفَرُ بَعِيدًا، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ. وَكِتَابُ أَبِي بَكْرٍ فِي الصَّدَقَاتِ آخِرُ الْكُتُبِ وَأَوْجَزُهَا، وَلِهَذَا عَمِلَ بِهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَكِتَابُ غَيْرِهِ فِيهِ مَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ مَنْسُوخٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عُلِمَ بِالسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَيْضًا فَالصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا فَصَّلَهَا بَيْنَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَارْتَفَعَ النِّزَاعُ، فَلَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِي زَمَانِهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ تَنَازَعُوا فِيهَا إلَّا ارْتَفَعَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِهِ كَتَنَازُعِهِمْ فِي وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَدْفِنِهِ وَفِي مِيرَاثِهِ، وَفِي تَجْهِيزِ جَيْشِ أُسَامَةَ، وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ، بَلْ كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute