للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: بَلْ يَجُوزُ هَذَا مُزَارَعَةً، وَلَا يَجُوزُ مُؤَاجَرَةً، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ قَفِيزَ الطَّحَّانِ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» ، وَهُوَ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِيَطْحَنَ الْحَبَّ بِجُزْءٍ مِنْ الدَّقِيقِ.

وَالصَّوَابُ: هُوَ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ، لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ هَذَا أَصْلُ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.

وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ قَدْ يَجْعَلُونَ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِتَغَايُرِ اللَّفْظِ، كَمَا قَدْ يَذْكُرُ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهَذَا كَالسَّلَمِ الْحَالِّ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَالْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ الْمُزَارَعَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَلَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَكِنَّهُمْ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.

قَالُوا: كَمَا أَنَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ شَخْصٍ وَالْمَالُ مِنْ شَخْصٍ فَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ يَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمَالُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ.

وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ فَنَظِيرُهُ الْأَرْضُ أَوْ الشَّجَرُ يَعُودُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الثَّمَرَ وَالزَّرْعَ.

وَأَمَّا الْبَذْرُ فَإِنَّهُمْ لَا يُعِيدُونَهُ إلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَذْهَبُ بِلَا بَدَلٍ، كَمَا يَذْهَبُ عَمَلُ الْعَامِلِ وَعَمَلُ بَقَرَةٍ بِلَا بَدَلٍ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفْعِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، وَكَانَ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ مِنْ الْعَامِلِ أَقْرَبَ فِي الْقِيَاسِ مَعَ مُوَافَقَةِ هَذَا الْمَنْقُولَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُزَارِعُ وَالْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ، وَكَانَ عُمَرُ يُزَارِعُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ، فَلَهُ كَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامِلِ، فَلَهُ كَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.

فَجَوَّزَ عُمَرُ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّوَابِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إجَارَةً لِنَهْيِهِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ، فَيُقَالُ: هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ، لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَلَا رَوَاهُ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمَدِينَةُ النَّبَوِيَّةُ لَمْ يَكُنْ بِهَا طَحَّانٌ يَطْحَنُ بِالْأُجْرَةِ، وَلَا خَبَّازٌ يَخْبِزُ بِالْأُجْرَةِ، وَأَيْضًا فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِكْيَالٌ يُسَمَّى الْقَفِيزَ، وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا الْمِكْيَالُ لَمَّا فُتِحَتْ الْعِرَاقُ وَضُرِبَ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجُ، فَالْعِرَاقُ لَمْ يُفْتَحْ

<<  <  ج: ص:  >  >>