للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِقَوْلِهِ فَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَهَذَا أَقَلُّ فَسَادًا مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ.

وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَسَادُهُ رَاجِحٌ عَلَى صَلَاحِهِ، فَلَا يُشَرِّعُ الْتِزَامَ الْفَسَادِ مَنْ يُشَرِّعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ.

وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَحَرَّمَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَأَبَاحَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَإِنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا يَحْصُلُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ.

وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يُخَالِفُ فِي هَذَا لَمَّا ظَنَّ أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى عَنْهُ لَيْسَ بِفَاسِدٍ: كَالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالُوا: لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ لَزِمَ انْتِقَاضُ هَذِهِ الْعِلَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ مُطْلَقِ النَّهْيِ.

وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْعَارِفِينَ بِتَفْصِيلِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَقِيلَ لَهُمْ: بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفُ أَنَّ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ؟ قَالُوا: بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا فَسَادٌ، وَأَمَّا هَذَا فَشَرْطُهُ فِي صِحَّتِهِ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا وُجِدَ الْمَانِعُ انْتَفَتْ الصِّحَّةُ.

وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَاقِعَةِ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَدِلَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ يَتَكَلَّمُونَ فِي أُمُورٍ يُقَدِّرُونَهَا فِي أَذْهَانِهِمْ أَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ هَلْ يُسْتَدَلُّ بِهَا أَمْ لَا يُسْتَدَلُّ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يُقَدِّرُونَهُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَضَّلَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا نَفْسَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْوَاقِعَةِ بَلْ قَدَّرُوا أَشْيَاءَ قَدْ لَا تَقَعُ وَأَشْيَاءَ ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ شَارِعٍ، وَهَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ.

فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ، أَوْ النِّكَاحِ، كَذَا، وَكَذَا، وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ، أَوْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ؛ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>