للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَهْلِ الْبِرِّ، وَأَهْلِ الْفُجُورِ، وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.

فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء: ٩٧] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ٩٨] بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ.

وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعْبِدُونَ، وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ: إذْ يَشْهَدُونَ أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقُّ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ "، وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ: كَابْنِ سَبْعِينَ، وَأَمْثَالِهِ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودٍ لِحَقِيقَةٍ؛ لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ؛ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ، وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ، وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ.

وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، عَوَامُّهُمْ وَخَوَاصُّهُمْ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ، وَخَاصَّتُهُ» .

فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ، لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ، وَلَا وُجُودُهُ وُجُودَهُ.

وَالنَّصَارَى كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً، فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ؟ ،

<<  <  ج: ص:  >  >>