وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ، فَهَذَا قَدْ يُفَسَّرُ مُرَادُهُ بِأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَيَقْصِدُونَ التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَخْلُوقٌ يَتَلَذَّذُونَ بِهِ، وَهَؤُلَاءِ يَرْجُونَ حُصُولَ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَيَخَافُونَ حِرْمَانَهُ، فَلَمْ يَخْلُو عَنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَكِنَّ مَرْجُوَّهُمْ وَمُخَوِّفَهُمْ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِمْ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ: لَمْ أَعْبُدْك شَوْقًا إلَى جَنَّتِكَ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِكَ، فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَتَّعُ فِيهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَالنَّارَ اسْمٌ لَا عَذَابَ فِيهِ إلَّا أَلَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا قُصُورٌ وَتَقْصِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ فَهْمِ مُسَمَّى الْجَنَّةِ، بَلْ كُلُّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فَهُوَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَالنَّظَرُ إلَيْهِ هُوَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلِهَذَا «كَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، وَلَمَّا سَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَمَّا يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ قَالَ: إنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنَ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» .
وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ يَعْنِي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا نَعِيمَ إلَّا بِمَخْلُوقٍ.
فَغَلِطَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الْجَنَّةِ كَمَا غَلِطَ أُولَئِكَ، لَكِنَّ أُولَئِكَ طَلَبُوا مَا يُسْتَحَقُّ أَنْ يُطْلَبَ، وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّأَلُّمُ بِالنَّارِ فَهُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْ قَالَ: لَوْ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْتُ رَاضِيًا، فَهُوَ عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا.
وَالْعَزَائِمُ قَدْ تَنْفَسِخُ عِنْدَ وُجُودِ الْحَقَائِقِ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِثْلِ سَمْنُونٍ الَّذِي قَالَ: وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ فَكَيْفَ مَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي فَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَجَعَلَ يَطُوفُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ وَيَقُولُ: اُدْعُوا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: ١٤٣] .
وَبَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي عِلَلِ الْمَقَامَاتِ جَعَلَ الْحُبَّ وَالرِّضَا وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute