{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: ١٤٢] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مُلِيمٌ، " وَالْمُلِيمُ " الَّذِي فَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ، فَالْمُلَامُ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَا فِي حَالِ نَبْذِهِ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، فَكَانَتْ حَالُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: ٨٧] أَرْفَعَ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ، وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِمَا جَرَى فِي الْبِدَايَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ثُمَّ عَلَّمَهُ فَنَقَلَهُ مِنْ حَالِ النَّقْصِ إلَى حَالِ الْكَمَالِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ حَالِ الْكَمَالِ، بَلْ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ كَمَالِهِ، وَيُونُسُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَالِ النِّهَايَةِ حَالُهُمْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مِنْ غَلِطَ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُمْ اعْتَبَرُوا كَمَالَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بِدَايَةِ الصَّالِحِينَ وَنَقْصِهِمْ فَغَلِطُوا وَلَوْ اعْتَبَرُوا حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ دُخُولِ الْجِنَانِ، وَرِضَا الرَّحْمَنِ، وَزَوَالِ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَمَغْلَامٌ، وَحُصُولِ كُلِّ مَا فِيهِ رَحْمَةٌ وَسَلَامٌ، حَتَّى اسْتَقَرَّ بِهِمْ الْقَرَارُ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: ٢٤] فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْحَالُ ظَهَرَ فَضْلُهَا عَلَى حَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَهَلْ يَجُوزُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَعْتَبِرَ حَالَ أَحَدِهِمْ قَبْلَ الْكَمَالِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ.
وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مُضْغَةٌ، ثُمَّ حِينَ نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ هُوَ وَلِيدٌ، ثُمَّ رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ، إلَى أَحْوَالٍ أُخَرَ فَعَلِمَ أَنَّ الْوَاحِدَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ تَقُمْ بِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا كَمَالَ الْمَدْحِ وَالتَّفْضِيلِ، وَتَفْضِيلُهُ بِهَا عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَجِيلٍ؛ وَإِنَّمَا فَضْلُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ، عِنْدَ حُصُولِ الْكَمَالِ. وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكْفُرْ قَطُّ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ لَيْسَ بِصَوَابٍ؛ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي عَاقِبَتِهِ كَانَ أَفْضَلَ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute