مُجَرَّدَةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إذًا نَكْثُرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ» فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ، فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلَّ دُعَاءٍ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ، وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ: الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ، لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ دَفْعَ مَا حَصَلَ بِذُنُوبٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ؟ فَجَوَابُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْآخَرِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً. وَالْخَشْيَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا مِنْ بَعْضِهَا، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ عَقِيلٍ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّ الْمَرُّوذِيَّ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَابَ مِنْ الْفَاحِشَةِ وَقَالَ: لَوْ مَرِضْت لَمْ أَعُدْ لَكِنْ لَا يَدَعُ النَّظَرَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ؟ ، قَالَ «جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَك» .
وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَأَحْمَدُ فِي هَذِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute