للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

" وَالنَّدَمُ " سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ، أَوْ قِيلَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ الْآلَامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ مَا يَضُرُّهَا؛ فَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا يَضُرُّهُ، حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَكَرَاهِيَةٌ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ؛ وَحَصَلَ لَهُ أَذًى وَغَمٌّ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ؛ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآلَامِ، كَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، كَمَا أَنَّ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ هُوَ مِنْ بَابِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ: إنَّ اللَّذَّةَ هِيَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ، وَإِنَّ الْأَلَمَ هُوَ إدْرَاكُ الْمُنَافِرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَافِرٌ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ حَالَانِ يَتَعَقَّبَانِ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ فَإِنَّ الْحُبَّ لِمَا يُلَائِمُهُ، كَالطَّعَامِ الْمُشْتَهَى مَثَلًا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ.

أَحَدُهَا: الْحُبُّ، كَالشَّهْوَةِ لِلطَّعَامِ.

وَالثَّانِي: إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ، كَأَكْلِ الطَّعَامِ.

وَالثَّالِثُ: اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ، وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلشَّهْوَةِ وَلِذَوْقِ الْمُشْتَهِي، بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِذَوْقِ الْمُشْتَهِي؛ لَيْسَتْ نَفْسَ ذَوْقِ الْمُشْتَهَى.

وَكَذَلِكَ " الْمَكْرُوهُ " كَالضَّرْبِ مَثَلًا. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ شَيْءٌ، وَحُصُولَهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِهِ ثَالِثٌ.

وَكَذَلِكَ مَا لِلْعَارِفِينَ أَهْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ شَيْءٌ، ثُمَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ شَيْءٌ، ثُمَّ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُبَّ مَشْرُوطٌ بِشُعُورِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا أَنَّ الشَّهْوَةَ مَشْرُوطَةٌ بِشُعُورِ الْمُشْتَهِي؛ لَكِنَّ الشُّعُورَ الْمَشْرُوطَ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُ الشُّعُورِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمَحَبَّةِ، فَهَذَا الثَّانِي يُسَمَّى إدْرَاكًا وَذَوْقًا وَنَيْلًا وَوَجْدًا وَوِصَالًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ، سَوَاءً كَانَ بِالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ، ثُمَّ هَذَا الذَّوْقُ يَسْتَلْزِمُ اللَّذَّةَ، وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يُحِسُّهُ الْحَيُّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا،

<<  <  ج: ص:  >  >>