وَعُلُوِّ قَدْرِهِ أَنْكَرَهُ فِي رِوَايَةٍ وَأَصْحَابُهُ خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ.
قُلْت: وَحَكَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ إنْكَارَهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَضَعَّفَ الرِّوَايَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ بِإِنْكَارِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاَلَّذِينَ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ظَنُّوا مُعَارَضَةَ آيَةِ الْمَائِدَةِ لِلْمَسْحِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِيهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْآيَةِ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ نَاسِخٌ لِلْآيَةِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ مُخَصَّصٌ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ: هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، وَطَائِفَةٌ: بَيَانٌ لِمَا فِي الْكِتَابِ.
وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَجَمِيعُ مَا يُدْعَى مِنْ السُّنَّةِ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْقُرْآنِ غَلَطٌ، أَمَّا أَحَادِيثُ الْمَسْحِ فَهِيَ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ لَابِسَ الْخُفِّ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ مَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَغْسِلُ، وَهَذَا عَامٌّ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ، لَكِنْ لَيْسَ عَامًّا لِأَحْوَالِهِ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ فِي ذَلِكَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُخَالِفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ يُبَيِّنُ مُرَادَهُ بِهِ وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: كَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِالْخَفْضِ، وَالنَّصْبِ، فَيُحْمَلُ النَّصْبُ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَالْخَفْضُ عَلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ كَآيَتَيْنِ.
وَهَلْ الْمَسْحُ أَفْضَلُ أَمْ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ قَدَمِهِ، فَلِلَابِسِ الْخُفِّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْزِعُ خُفَّيْهِ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَلِمَنْ قَدَمَاهُ مَكْشُوفَتَانِ الْغَسْلُ، وَلَا يَتَحَرَّى لُبْسَهُ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إذَا كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ، وَيَمْسَحُ إذَا كَانَ لَابِسَ الْخُفَّيْنِ.
وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى اللَّفَائِفِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، حَكَاهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ مَا دَامَ اسْمُهُ بَاقِيًا، وَالْمَشْيُ فِيهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ قَدِيمُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى الْقَدَمِ وَنَعْلِهَا الَّتِي يَشُقُّ نَزْعُهَا إلَّا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِأَكْثَرِ الْقَدَمِ هُنَا، وَالظَّاهِرِ مِنْهَا غَسْلًا وَمَسْحًا أَوْلَى مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الْخُفِّ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّتُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute