وَخُلُقٌ خَادِعٌ، وَسُوقٌ خَادِعَةٌ أَيْ مُتَلَوِّنَةٌ. وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ، وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ وَالسَّتْرُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخِزَانَةِ: مِخْدَعٌ وَمُخْدَعٌ.
فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ إنْشَاءً لِلْإِيمَانِ، أَوْ إخْبَارًا بِهِ وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي هَذَا الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ - بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِذَلِكَ، وَحُكْمُهُ أَنْ يَعْصِمَ دَمَهُ وَمَالَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ - كَانَ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ غَيْرَ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَتِهَا، بَلْ مُرِيدًا لِحُكْمِهَا وَثَمَرَتِهَا فَقَطْ، مُخَادِعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا يَظُنُّ أَنَّهُ كَرَامَةٌ وَفِيهِ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَمَا أَظْهَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ إيمَانٌ وَفِي ضِمْنِهِ الْكُفْرُ.
وَهَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ: بِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ، وَاقْتَرَضْتُ، وَأَنْكَحْتُ، وَنَكَحْتُ إنْشَاءً لِلْعَقْدِ، أَوْ إخْبَارًا بِهِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَلَا ثُبُوتَ النِّكَاحِ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، بَلْ مَقْصُودُهُ بَعْضُ أَحْكَامِهَا الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ ضِمْنًا، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ. أَوْ قَصَدَ مَا يُنَافِي قَصْدَ الْعَقْدِ، أَوْ قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ شَيْءٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنْ تَعُودَ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. أَوْ أَنْ تَعُودَ السِّلْعَةُ إلَى الْبَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ أَنْ تَنْحَلَّ يَمِينٌ قَدْ حَلَفَهَا كَانَ مُخَادِعًا لِمُبَاشَرَتِهِ لِلْكَلِمَاتِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا حَقَائِقُ وَمَقَاصِدُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ مَقَاصِدَهَا وَحَقَائِقَهَا.
وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ النِّفَاقِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْأَثَرِ مَا رُوِيَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَسَيَجِيءُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: «لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ» .
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: الْمُدَالَسَةُ الْمُخَادَعَةُ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ.
وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ هُوَ كِتَابُ الْمُخَادَعَةِ، وَكَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute