للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا بَلَاءً اُبْتُلُوا بِهِ، وَلَا تَأْتِيهِمْ فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَطْلُبُوهَا بَلَاءً أَيْضًا بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَأَخَذُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ اسْتِحْلَالًا وَمَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ اللَّهُ: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: ١٦٦] إلَّا طَائِفَةً مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَدُوا وَنَهَوْهُمْ.

فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ اسْتَحَلُّوهَا وَعَصَوْا اللَّهَ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِلُّوهَا تَكْذِيبًا لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكُفْرًا بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْلَالُ تَأْوِيلٍ وَاحْتِيَالٍ ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ، وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ.

وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسِخُوا قِرَدَةً، لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً يُشْبِهُونَهُمْ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِمْ دُونَ الْحَقِيقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا.

يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَاكَ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا، وَالصَّيْدَ فِي السَّبْتِ لَيْسَ حَرَامًا عَلَيْنَا، ثُمَّ إنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُعَاقَبُوا بِالْمَسْخِ، كَمَا عُوقِبَ بِهِ مُسْتَحِلُّو الْحَرَامِ بِالْحِيلَةِ، وَإِنَّمَا عُوقِبُوا بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِ عُقُوبَاتِ غَيْرِهِمْ فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا، فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ. بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ - كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ - كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَةِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِأَنَّهُ حَرَامٌ، فَقَدْ اقْتَرَنَ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَرَجَاءِ مَغْفِرَتِهِ، وَإِمْكَانِ التَّوْبَةِ مَا قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى خَيْرٍ، وَمَنْ أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا بِنَوْعِ احْتِيَالٍ تَأَوَّلَ فِيهِ فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْحَرَامِ، وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ اعْتِقَادُهُ الْفَاسِدُ فِي حِلِّ الْحَرَامِ. وَذَلِكَ قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى شَرٍّ طَوِيلٍ، وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» .

ثُمَّ رَأَيْتُ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>