وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحِيَلِ يَفْتَحُ بَابَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ لَا يَتِمُّ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الرَّجُلَانِ عَلَى عَقْدٍ يُظْهِرَانِهِ وَمَقْصُودُهُمَا أَمْرٌ آخَرُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّمْلِيكِ لِلْوَقْفِ، وَكَمَا فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ، وَحِيَلِ الْمَنَاكِحِ، وَذَلِكَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ إنْ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا.
وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فَقَدْ جُوِّزَتْ الْخِيَانَةُ وَالْكَذِبُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلِهَذَا لَا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحِيَلَ خَوْفًا مِنْ مَكْرِهِ، وَإِظْهَارِهِ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» ، وَالْمُحْتَالُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ: فَكَيْفَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ وَتُقْبِلُ عَلَى خَاصَّتِكَ وَتَدَعُهُمْ وَعَوَامَّهُمْ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ
، وَالْحِيَلُ تُوجِبُ مَرْجَ الْعُهُودِ وَالْأَمَانَاتِ وَهُوَ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا سَوَّغَ لَهُ مَنْ يُعَاهِدُ عَهْدًا، ثُمَّ لَا يَفِي بِهِ، أَوْ أَنْ يُؤْمَنَ عَلَى شَيْءٍ فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ ارْتَفَعَتْ الثِّقَةُ بِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ حِيَلَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَحَلُّوا بِهَا الْمَحَارِمَ، وَدَخَلُوا بِهَا فِي الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَهَا عَهْدٌ وَلَا أَمَانَةٌ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الِاحْتِيَالَ وَالتَّأْوِيلَاتِ أَوْجَبَ عِظَمَ ذَلِكَ، وَعَلِمَ خُرُوجَ أَهْلِ الْحِيَلِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: ٨] ، وَقَوْلِهِ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: ٧] وَمُخَالَفَتَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: ٥٨] ، وَقَوْلِهِ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: ٩١] ، وقَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رَوَاهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute