للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَجُزْ أَنْ يُقَيَّدَ كَلَامُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَكَانَ مُقْتَضَى لَفْظِهِ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ يَلْبَسُهُ النَّاسُ وَيَمْشُونَ فِيهِ، فَلَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوقًا أَوْ مَخْرُوقًا، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّحْدِيدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحُدُّهُ بِالرُّبُعِ، كَمَا يَحُدُّ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يُقَالُ: رَأَيْتُ الْإِنْسَانَ، إذَا رَأَيْتُ أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ، فَالرُّبُعُ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: التَّحْدِيدُ بِالرُّبُعِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.

وَأَيْضًا فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ بَلَّغُوا سُنَّتَهُ، وَعَمِلُوا بِهَا، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقْيِيدُ الْخُفِّ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُيُودِ، بَلْ أَطْلَقُوا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِفَافِ وَأَحْوَالِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ فَهِمُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا. وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ خِفَافِ النَّاسِ لَا يَخْلُو مِنْ فَتْقٍ أَوْ خَرْقٍ، يَظْهَرُ مِنْهُ بَعْضُ الْقَدَمِ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، بَطَلَ مَقْصُودُ الرُّخْصَةِ، لَا سِيَّمَا وَاَلَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ ذَلِكَ هُمْ الْمُحْتَاجُونَ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَاجِينَ، فَإِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ هُوَ الْحَاجَةُ، وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» .

بَيَّنَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ لَا يَجِدُ إلَّا ثَوْبًا وَاحِدًا، فَلَوْ أَوْجَبَ الثَّوْبَيْنِ لَمَا أَمْكَنَ هَؤُلَاءِ أَدَاءَ الْوَاجِبِ. ثُمَّ إنَّهُ أَطْلَقَ الرُّخْصَةَ، فَكَذَلِكَ هُنَا، لَيْسَ كُلُّ إنْسَانٍ يَجِدُ خُفًّا سَلِيمًا، فَلَوْ لَمْ يُرَخِّصْ إلَّا لِهَذَا لَزِمَ الْمَحَاوِيجَ خَلْعُ خِفَافِهِمْ، وَكَانَ إلْزَامُ غَيْرِهِمْ بِالْخَلْعِ أَوْلَى، ثُمَّ إذَا كَانَ إلَى الْحَاجَةِ فَالرُّخْصَةُ عَامَّةٌ. وَكُلُّ مَنْ لَبِسَ خُفًّا وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ فَلَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخُفُّ سَلِيمًا أَوْ مَقْطُوعًا. فَإِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ فِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى: كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، حَتَّى تُشْتَرَطَ فِيهِ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>