فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ، فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ، وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ، وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ، وَعَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا، وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا. فَهَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِهِ؟ وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، يَمْسَحَانِ عَلَى الْقَلَانِسِ. وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَدُ هَذَا، وَهَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَجَوَّزَ أَيْضًا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ. لَكِنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ رَأَى أَنَّ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً الْمُقْتَطَعَةَ كَانَ أَحْمَدُ يَكْرَهُ لُبْسُهَا، وَكَذَا مَالِكٌ يَكْرَهُ لُبْسُهَا أَيْضًا؛ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ، وَشَرَطَ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي وَأَتْبَاعُهُ، وَذَكَرُوا فِيهَا - إذَا كَانَ لَهَا ذُؤَابَةٌ - وَجْهَيْنِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إذَا كَانَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُجَوِّزُ الْمَسْحَ عَلَى الْقَلَانِسِ الدُّبِّيَّاتِ، وَهِيَ الْقَلَانِسُ الْكِبَارُ؛ فَلَأَنْ يُجَوِّزَ ذَلِكَ عَلَى الْعِمَامَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَالسَّلَفُ كَانُوا يُحَنِّكُونَ عَمَائِمَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْبِطُوا الْعَمَائِمَ بِالتَّحْنِيكِ وَإِلَّا سَقَطَتْ، وَلَمْ يُمْكِنْ مَعَهَا طَرْدُ الْخَيْلِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِهِ هُمْ الْمُجَاهِدُونَ.
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ بِلَا تَحْنِيكٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحِجَازِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَا يُجَاهِدُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute