للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَحُولُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ هَذَا النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يَقُولُ هِيَ أُخْتُهُ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ رَبِيبَتُهُ فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَأَظْهَرَ فَسَادَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَعَنَ الْمُحَلِّلَ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.

يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ نَكَحَ نِكَاحًا مُحَرَّمًا إلَّا الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِثْلَ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوَهُنَّ مِثْلُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَأَغْلَظُ، وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِإِظْهَارِ اللَّعْنِ بَيَانُ الْعُقُوبَةِ لِتَنْزَجِرَ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، وَسَائِرُ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مُرِيدُهَا مِنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الْعَقْدِ وَالْوَلِيَّ وَغَيْرَهُمْ يَطَّلِعُونَ عَلَى السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا يُمَكِّنُونَهُ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرَّمَ فِي حَقِّهِ بَاطِنٌ، ثُمَّ تِلْكَ الْمَنَاكِحُ قَدْ ظَهَرَ تَحْرِيمُهَا فَلَا يُشْتَبَهُ حَالُهَا، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ حَالُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِاللَّعْنَةِ مَنْ أَسَرَّ التَّحْلِيلَ، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ أَظْهَرَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَلَعَنَ بَائِعَ الْخَمْرِ وَمُبْتَاعَهَا. قِيلَ: الْبَيْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إشْهَادٍ وَإِعْلَانٍ فَتَقَعُ هَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَعُ الْفَاحِشَةُ وَالسَّرِقَةُ. وَلِهَذَا لَعَنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا عَلِمَا أَنَّهُ رِبًا، فَإِنَّهُمَا قَدْ يُسْتَشْهَدَانِ عَلَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَلَا يَشْعُرَانِ أَنَّهُ رِبًا، وَلَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْمُرْبِي غَالِبًا إلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَى أَجَلٍ.

يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَلْعَنْ مَنْ عَقَدَ بَيْعًا مُحَرَّمًا إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالرِّبَا؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ النَّوْعَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ فِيهِمَا الِاحْتِيَالُ وَالتَّأْوِيلُ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَصِيرَهُ لِمَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا، مُتَأَوِّلًا أَنَّى لَمْ أَبِعْ الْخَمْرَ، وَبِأَنْ يُرْبِيَ بِصُورَةِ الْبَيْعِ مُتَأَوِّلًا أَنَّى بَائِعٌ لَا مُرْبٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ الشَّرُّ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَظَهَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا لَعَنَ الْعُقُودَ ثَلَاثَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>