فَالْإِشَارَةُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْبَلَاغُ مِنْ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَمِدَادِ الْكَاتِبِ فَمَنْ قَالَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَمِدَادُ الْكَاتِبِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهَذَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِمَنْ سَأَلَهُ.
وَقَدْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] فَقَالَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ نَعَمْ فَنَقَلَ السَّائِلُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَدَعَا بِهِ وَزَبَرَهُ زَبْرًا شَدِيدًا وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَقَالَ أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ قُلْت لِي لَمَّا قَرَأْت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ فَلِمَ تَنْقُلْ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْهُ؟ فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْإِشَارَةُ إلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ كُنَّا إنَّمَا سَمِعْنَاهَا بِبَلَاغِ الْمُبَلِّغِ وَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ فَإِذَا أَشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ أَوْ فِعْلُهُ وَقَالَ هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ ضَلَّ وَأَخْطَأَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْكَلَامِ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا يُقَالُ إنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِدَادِ وَالْوَرَقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ كُلُّ وَرَقٍ وَمِدَادٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَيُقَالُ أَيْضًا الْقُرْآنُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِالْجَوَابِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَا فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا خَطَأٌ وَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُوَلَّدَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ. لَمَّا قَالَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصِّفَاتِيَّةِ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاَلَّذِي لَمْ يُنْزِلْهُ وَالْكَلِمَاتُ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ وَالْكَلِمَاتُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدِ مَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، قَامَتْ بِاَللَّهِ إنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ كَانَتْ التَّوْرَاةَ وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ الْقُرْآنَ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لَهَا لَا أَقْسَامٌ لَهَا وَأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ إذْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ.
عَارَضَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْمُثْبِتَةِ فَقَالُوا: بَلْ الْقُرْآنُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَتَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادَ، وَبِالْأَصْوَاتِ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ اتِّبَاعُ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute