قَدَّرَ فِي نَفْسِهِ تَقْدِيرًا مُضَاهِيًا لِلْعِلْمِ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْمَوْجُودِ مَعْدُومًا وَالْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فِي الْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ فَمَعْنَى خَبَرِهِ هُوَ عِلْمٌ مُقَدَّرٌ لَا عِلْمٌ مُحَقَّقٌ، لِأَنَّ مُخْبِرَ الْخَبَرِ فِي الْخَارِجِ لَهُ وُجُودٌ مُقَدَّرٌ لَا وُجُودٌ مُحَقَّقٌ، وَالْمُقَدَّرُ لَيْسَ بِمُحَقَّقٍ لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ، لَكِنْ لَمَّا قَدَّرَ هُوَ أَنَّهُ عَالِمٌ قَدَّرَ أَيْضًا وُجُودَ الْمُخْبِرِ فِي الْخَارِجِ، وَالْمُسْتَمِعُ لَمَّا اعْتَقَدَ صِدْقَهُ وَحُسْبَانَهُ صَادِقٌ، وَأَنَّ لِمَا قَالَهُ حَقِيقَةٌ لَمْ يَظُنَّهُ مُقَدَّرًا بَلْ حَسِبَهُ مُحَقَّقًا، وَكُلُّ اعْتِقَادٍ فَاسِدٍ تَقْدِيرَاتٌ ذِهْنِيَّةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَهِيَ أَخْبَارٌ وَاعْتِقَادَاتٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عُلُومًا، لَكِنْ هِيَ فِي الصُّورَةِ مِنْ جِنْسِ الْمُحَقَّقِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْكَاذِبِ مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الصَّادِقِ وَخَطَّهُ مِنْ جِنْسِ خَطِّهِ فَهُمَا مُتَشَابِهَانِ فِي الدَّلَالَةِ خَطًّا وَلَفْظًا وَعَقْدًا، فَكَذَلِكَ أَمْرُ الْمُمْتَحَنِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِطَالِبٍ وَلَا مُرِيدٍ أَصْلًا بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ لِكَوْنِهِ طَالِبًا مُرِيدًا لِأَنَّهُ يُظْهِرُ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ الْمَأْمُورِ وَامْتِثَالِهِ مَا يُظْهِرُ بِتَحْقِيقِهِ ثُمَّ إظْهَارُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ، قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يَجُوزُ، مِثْلُ أَنْ يَفْهَمَ الْمُتَكَلِّمُ لِلْمُسْتَمِعِ مَعْنًى لَمْ يُرِدْهُ الْمُتَكَلِّمُ وَاللَّفْظُ قَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ فَمَعْنَاهُ فِي نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْمُسْتَمِعُ وَمَفْهُومُ الْمُسْتَمِعِ شَيْءٌ آخَرُ وَكَذَلِكَ الْمُمْتَحِنُ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ فِي نَفْسِهِ طَلَبٌ مُقَدَّرٌ وَإِرَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَمِعِ طَلَبٌ مُحَقَّقٌ وَإِرَادَةٌ مُحَقَّقَةٌ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بَاطِنَ الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ عِنْدَ الْكَذَّابِ هُوَ مَا اخْتَلَقَهُ وَالِاخْتِلَاقُ هُوَ التَّقْدِيرُ وَهُوَ مَا قَدَّرَهُ فِي ذِهْنِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَعِنْدَ الْمُسْتَمِعِ هُوَ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْنَى بِاللَّفْظِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُحَقَّقَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَنْتُمْ قَرَّرْتُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَشْهُورَ الَّذِي تَتَدَاوَلُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى دَقِيقٍ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ، وَهَذَا حَقٌّ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكَلُّمَ النَّاسِ بِاللَّفْظِ الَّذِي لَهُ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمْ فِي فَهْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى خِطَابًا وَسَمَاعًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَفْهَمُهُ إلَّا بَعْضُ النَّاسِ بِدَقِيقِ الْفِكْرَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ اللَّفْظِ يَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ بِدُونِ فِكْرَةٍ دَقِيقَةٍ وَقَدْ مَثَّلُوا ذَلِكَ بِلَفْظِ الْحَرَكَةِ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِكَوْنِ الْجِسْمِ مُتَحَرِّكًا أَوْ لِمَعْنًى يُوجِبُ كَوْنَهُ مُتَحَرِّكًا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَسْمَاءِ وَمُسَمَّيَاتِهَا هُوَ اسْمُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَالنُّطْقِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ إذْ أَظْهَرُ صِفَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute