للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِبَعْضِ عَبِيدِهِ مَتَى قُلْت لَك افْعَلْ فَاعْلَمْ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك الْفِعْلَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مَتَى قُلْت لَك هَذِهِ الصِّيغَةَ فَاعْلَمْ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك التَّرْكَ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مَتَى قُلْت لَك هَذِهِ الصِّيغَةَ فَاعْلَمْ أَنِّي أُخْبِرُ عَنْ كَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا، فَإِذَا حَضَرُوا بِأَسْرِهِمْ وَخَاطَبَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِهَذِهِ الصِّيغَةِ كَانَتْ تِلْكَ الصِّيغَةُ الْوَاحِدَةُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا مَعًا، فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ فَلْيُعْقَلْ مِثْلُهُ فِي الْغَائِبِ. ثُمَّ قَالَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ طَلَبًا وَلَا خَبَرًا بَلْ هُوَ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دَلِيلًا عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، إنَّمَا الِاسْتِحَالَةُ فِي أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ حَقِيقَةِ الْخَبَرِ وَحَقِيقَةِ الطَّلَبِ.

وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْأَمْرِ مِنْ كِتَابِ الْمَحْصُولُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَهَذَا كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ فَسَادِهَا وَبُطْلَانِهَا وَذَلِكَ كَافٍ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ أَكْثَرُ مَا فِيهِ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُشْرَكًا بَيْنَ مَعَانِي أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ وَيْلٌ لَك أَنَّهُ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الصِّيغَةَ الْوَاحِدَةَ يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ تَارَةً وَالْخَبَرُ أُخْرَى كَقَوْلِ الْقَائِلِ غَفَرَ اللَّهُ لِفُلَانٍ وَرَحِمَهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَأَجَارَهُ مِنْ النَّارِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعَمًا عَظِيمَةً فَإِنَّ هَذَا فِي الْأَصْلِ خَبَرٌ وَهُوَ كَثِيرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ طَلَبٌ وَكَذَلِكَ صِيغَةُ افْعَلْ هِيَ أَمْرٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ تُضَمَّنُ مَعْنَى النَّهْيِ وَالتَّهْدِيدِ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: ٤٠] .

وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ إمَّا الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ أَوْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمْ، وَالنِّزَاعُ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا وَالرَّازِيُّ يَخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مُوَافَقَةً لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا يَرْجِعُ إلَى الْقَصْدِ فَإِنَّ قَصْدَ الْمَعْنَيَيْنِ جَائِزٌ وَلَكِنْ الْمَانِعُ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَضْعِ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعُوهُ لِهَذَا وَهَذِهِ وَلِهَذَا وَهَذِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِيهَا جَمِيعًا اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>