إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ: فَهَذِهِ الْأَبْوَالُ وَالْأَرْوَاثُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِي بَدَنِ الْحَيَوَانِ، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهُ، وَيَخْرُجُ خَبِيثُهُ مِنْ جِهَةِ دُبُرِهِ وَأَسْفَلِهِ، وَيَكُونُ نَجِسًا، فَإِنْ فَرَّقَ بِطِيبِ لَحْمِ الْمَأْكُولِ، وَخُبْثِ لَحْمِ الْمُحَرَّمِ، فَيُقَالُ: طَيِّبُ الْحَيَوَانِ وَشَرَفُهُ، وَكَرَمُهُ لَا يُوجِبُ طَهَارَةَ رَوْثِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهُ كَرَامَةً لَهُ وَشَرَفًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَبَوْلُهُ أَخْبَثُ الْأَبْوَالِ - أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إنَّ مُفَارَقَةَ الْحَيَاةِ لَا تُنَجِّسُهُ، وَأَنَّ مَا أُبِينَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَهُوَ طَاهِرٌ أَيْضًا، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ، فَلَوْ كَانَ إكْرَامُ الْحَيَوَانِ مُوجِبًا لِطَهَارَةِ رَوْثِهِ، لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى، وَهَذَا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَلُبَابُهَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى مِنْ الِاسْتِخْبَاثِ، وَالطَّبَقَةِ النَّازِلَةِ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ كَمَا شَهِدَ بِهِ أَنْفُسُ النَّاسِ، وَتَجِدُهُ طَبَائِعُهُمْ وَأَخْلَاقُهُمْ، حَتَّى لَا نَكَادَ نَجِدُ أَحَدًا يُنَزِّلُهُ مَنْزِلَةَ دَرِّ الْحَيَوَانِ وَنَسْلِهِ، وَلَيْسَ لَنَا إلَّا طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ، وَإِذَا فَارَقَ الطَّهَارَاتِ دَخَلَ فِي النَّجَاسَاتِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النَّجَاسَاتِ مِنْ مُبَاعَدَتِهِ وَمُجَانَبَتِهِ، فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إذَا تَجَاذَبَتْهَا الْأُصُولُ لَحِقَتْ بِأَكْثَرِهَا شَبَهًا، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ اللَّبَنِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَهُوَ بِهَذَا أَشْبَهُ، وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: ٦٦] .
قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ، فَكَذَلِكَ الْفَرْثُ لِتَظْهَرَ الْقُدْرَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي إخْرَاجِ طَيِّبٍ مِنْ بَيْنِ خَبِيثَيْنِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا جَمِيعَهُ أَنَّهُ يُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي خَلْقِهِ، وَلَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَطَعْمِهِ، فَكَيْفَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مَعَ هَذِهِ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَكَادُ تَجْعَلُ حَقِيقَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةَ الْآخَرِ.
فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قِيَاسُ التَّمْثِيلِ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَرَكِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: قِيَاسُ التَّعْلِيلِ بِتَنْقِيحِ مَنَاطِ الْحُكْمِ وَضَبْطٍ أَصْلِيٍّ كُلِّيٍّ. وَالثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِ الطَّاهِرَاتِ، فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِيهَا. فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ أَصْلٌ، وَوَصْلٌ، وَفَصْلٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute