للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ» . يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَذَابَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ، لَا لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ عُقُوبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} [غافر: ٣٠] {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: ٣١] .

يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ. وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُمْدَحَ الْمَمْدُوحُ بِعَدَمِ إرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَدْحُ بِتَرْكِ الْأَفْعَالِ إذَا كَانَ الْمَمْدُوحُ قَادِرًا عَلَيْهَا، فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: «إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي أَوْ مَنَعْت نَفْسِي مِنْ خَلْقِ مِثْلِي، أَوْ جَعَلَ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِقَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالَاتِ.

وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ: إنِّي أَخْبَرْت عَنْ نَفْسِي بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَا يَكُونُ مِنِّي، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَتَيَقَّنُ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الرَّبِّ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ إرَادَةِ مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِمِثْلِهِ، إذْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ شِبْهَ التَّكْرِيرِ، وَإِيضَاحَ الْوَاضِحِ، لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا ثَنَاءٌ، وَلَا مَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُسْتَمِعُ، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ أَمْرٌ مَقْدُورٌ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِهِ، مُقَدَّسٌ عَنْهُ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي حُدُودِ الظُّلْمِ يَتَنَاوَلُ هَذَا دُونَ ذَلِكَ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، أَيْ: فَمَا وُضِعَ الشَّبَهُ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ إلَّا مَوَاضِعَهَا، وَوَضْعُهَا غَيْرَ مَوَاضِعِهَا لَيْسَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ، لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ، بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ؛ إذْ قَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>