للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» ، فَإِنَّ هَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ أَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ أَحَدًا، وَأَمْرُ الْعَالِمِ فِي الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَعْرَاضِ، وَلِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ، وَمُقَابَلَةُ الْعَادِي بِمِثْلِ فِعْلِهِ، لَكِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ يَكُونُ عِلْمُهَا أَوْ عَمَلُهَا مُتَعَذِّرًا وَمُتَعَسِّرًا، وَلِهَذَا يَكُونُ الْوَاجِبُ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَيْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَيُقَالُ هَذَا أَمْثَلُ وَهَذَا أَشْبَهُ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى، لَمَّا كَانَ أَمْثَلَ بِمَا هُوَ الْعَدْلُ، وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ مَحْجُوزٌ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: ١٥٢] . فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا حِينَ أَمَرَ بِتَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ أَحَدُ الْمَكِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَلَوْ بِحَبَّةٍ أَوْ حَبَّاتٍ، وَكَذَلِكَ التَّفَاضُلُ فِي الْمِيزَانِ قَدْ يَحْصُلُ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَقَالَ - تَعَالَى -: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: ١٥٢] .

وَلِهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ مَشْرُوعًا إذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جَنَفٍ، كَالِاقْتِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى عَظْمٍ، وَفِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَى مَفْصِلٍ، فَإِذَا كَانَ الْجَنَفُ وَاقِعًا فِي الِاسْتِيفَاءِ، عُدِلَ إلَى بَدَلِهِ، وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْعَدْلِ مِنْ إتْلَافِ زِيَادَةٍ فِي الْمُقْتَصِّ مِنْهُ، وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ رَأَى مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ فِي الْعُنُقِ، قَالَ: لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَفِي غَيْرِ الْعُنُقِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ وَالتَّوْسِيطُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَشَدَّ إيلَامًا، لَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ قَوْلُهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ مَعَ تَحَرِّي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدْلِ، وَمَا حَصَلَ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَلَمِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ.

وَأَمَّا إذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ وَسَطَهُ، فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِالسَّيْفِ، أَوْ رَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ، فَهُنَا قَدْ تَيَقَّنَّا عَدَمَ الْمُعَادَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ، وَكُنَّا قَدْ فَعَلْنَا مَا تَيَقَّنَّا انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ وُجُودُهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ تَقَعُ، إذْ التَّفَاوُتُ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>