وَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ، وَنَفْسُ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي فِعْلِهَا بَاطِلٌ، وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ وَلَا أَحَدَ غَيْرُهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إلَّا كَصَلَاتِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهُ أَحَدٌ أَرْبَعًا قَطُّ لَا بِعَرَفَةَ وَلَا بِمُزْدَلِفَةَ وَلَا غَيْرِهِمَا، لَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، بَلْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُقِيمُ بِمِنًى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعًا لِأُمُورٍ رَآهَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَهُ.
وَلَمْ يَجْمَعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَّا بِعَرَفَةَ وَبِمُزْدَلِفَةَ خَاصَّةً، لَكِنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْفَارِهِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ، ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ يَجُوزُ، سَوَاءٌ نَوَى الْقَصْرَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ سَوَاءٌ نَوَاهُ مَعَ الصَّلَاةِ الْأُولَى، أَوْ لَمْ يَنْوِهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَةَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَأْمُرْهُمْ عِنْدَ افْتِتَاحِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِأَنْ يَنْوُوا الْجَمْعَ، وَلَا كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجْمَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ سَفْرَتِهِ تِلْكَ، وَلَا أَمَرَ أَحَدًا خَلْفَهُ لَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْهُ، لَا بِتَرْبِيعِ الصَّلَاتَيْنِ، وَلَا بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، بَلْ صَلَّوْهَا مَعَهُ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ الْأَفْضَلُ إلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ، وَاتَّفَقُوا أَنَّ فِعْلَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ الْجَمْعَ، إلَّا قَوْلًا شَاذًّا لِبَعْضِهِمْ.
وَالْقَصْرُ سَبَبُهُ السَّفَرُ خَاصَّةً لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَسَبَبُهُ الْحَاجَةُ وَالْعُذْرُ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهِ جَمَعَ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَالطَّوِيلِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، وَلِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَهُوَ نَازِلٌ إلَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْجَمْعِ. كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ النَّازِلِ؟ فَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجَمْعَ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute