وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَجَابَ: عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ قَضَايَا الْأَعْيَانِ، كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ لَهُ: إنِّي وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنْ هَلْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَفْطَرَ، أَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ أَفْطَرَ فِيهِ بِالْجِمَاعِ، أَوْ أَفْطَرَ بِالْجِنْسِ الْأَعْلَى، هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا سَأَلَهُ سَائِلٌ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ. فَقَالَ: «انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجَّتِك» . فَهِيَ أَمَرَهُ بِغُسْلِ الْخَلُوقِ لِكَوْنِهِ طَيِّبًا، حَتَّى يُؤْمَرَ الْمُحْرِمُ بِغَسْلِ كُلِّ طَيِّبٍ كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَلُوقًا لِرَجُلٍ؟ وَقَدْ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ، فَيَنْهَى عَنْ الْخَلُوقِ لِلرَّجُلِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا عَتَقَتْ بَرِيرَةُ فَخَيَّرَهَا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا؛ لَكِنْ هَلْ التَّخْيِيرُ لِكَوْنِهَا عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَكَمُلَتْ تَحْتَ نَاقِصٍ؟ وَلَا تُخَيَّرُ إذَا عَتَقَتْ تَحْتَ الْحُرِّ، أَوْ الْحُكْمُ لِكَوْنِهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَتُخَيَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعُوا فِيهِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا فَيُحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ الْمَنَاطُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ قِيَاسًا؛ وَبَعْضُهُمْ لَا يُسَمِّيهِ قِيَاسًا؛ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَسْتَعْمِلُونَ فِيهَا الْقِيَاسَ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ النِّزَاعُ، كَمَا أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ لَيْسَ مِمَّا يَقْبَلُ النِّزَاعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ " تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ " " وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ " " وَتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " هِيَ جِمَاعُ الِاجْتِهَادِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute