الْقَطْعَ بِمَذْهَبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ قَطْعِيًّا عِنْدَ شَخْصٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا ادَّعَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ عِنْدَهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي الْقَطْعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ، كَمَا يَغْلَطُ فِي سَمْعِهِ وَفَهْمِهِ وَنَقْلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ، كَمَا قَدْ يَغْلَطُ الْحِسُّ الظَّاهِرُ فِي مَوَاضِعَ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: الْأَقْوَالُ فِي كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ: طَرَفَانِ، وَوَسَطٌ. الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. مُدَّعِيًا أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، أَوْ نَاقِلًا لِذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ. وَالطَّرَفُ الْمُقَابِلُ لَهُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفْتَحُ بِهَا فِي السُّوَرِ تَبَرُّكًا بِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ: أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ، بَلْ كُتِبَتْ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَكَذَلِكَ تُتْلَى آيَةً مُنْفَرِدَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، كَمَا تَلَاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: ١] كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: «إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ هِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: ١] » رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ مَنْ حَقَّقَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَوَسَّطَ فِيهَا جَمْعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَكِتَابَتِهَا سَطْرًا مَفْصُولًا عَنْ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي الْفَاتِحَةِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute