{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] لَكِنْ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَمُتَّبِعِيهِ، ذَكَرُوا أَنَّهَا تُبْطِلُ، إذَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ نَصَّهُ فِي النَّحْنَحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ فِي النَّفْخِ، فَصَارَ ذَلِكَ مُوهِمًا أَنَّ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ تُبْطِلُ، وَالنَّفْخُ لَا يُبْطِلُ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي التَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ: لَا يُبْطِلُ مُطْلَقًا عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَالِكٌ مَعَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُ فِي النَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ قَالَ: الْأَنِينُ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرِيضِ، وَأَكْرَهُهُ لِلصَّحِيحِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَنِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُبْطِلًا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي وَافَقَهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهُوَ أَنَّ مَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ كَانَ كَلَامًا مُبْطِلًا، وَهُوَ أَشَدُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَبْعَدُهَا عَنْ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ الْإِبْطَالَ إنْ أَثْبَتُوهُ بِدُخُولِهَا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فِي لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ الْمَعْلُومِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي الْكَلَامِ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَانِيَ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِلَفْظٍ، وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمُصَلِّي. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ فَهِيَ طَبِيعِيَّةٌ كَالتَّنَفُّسِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي التَّنَفُّسِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا تُفَارِقُ التَّنَفُّسَ بِأَنَّ فِيهَا صَوْتًا، وَإِبْطَالُ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِلَا أَصْلٍ، وَلَا نَظِيرَ.
وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالنَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ بِيَقِينٍ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالشَّكِّ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ، هُوَ مَا يُدْعَى مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، بَلْ هَذَا إثْبَاتُ حُكْمٍ بِالشَّكِّ الَّذِي لَا دَلِيلَ مَعَهُ، وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ لِخَشْيَةِ اللَّهِ فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَقْتَضِي الرَّهْبَةَ مِنْ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute