الْمِخْيَطُ إذَا دَخَلَ الْبَحْرَ» . وَالْخِيَاطُ وَالْمِخْيَطُ مَا يُخَاطُ بِهِ، إذْ الْفَعَّالُ وَالْمَفْعَلُ وَالْفِعَالُ مِنْ صِيَغِ الْآلَاتِ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا كَالْمِسْمَارِ وَالْخَلَّابِ وَالْمِنْشَارِ.
فَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ إذَا سَأَلُوا وَهُمْ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَزَمَانٍ وَاحِدٍ، فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ لَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ إلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْخِيَاطُ، وَهِيَ الْإِبْرَةُ، إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ: «لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدِي» ، فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ أُمُورًا مَوْجُودَةً يُعْطِيهِمْ مِنْهَا مَا سَأَلُوهُ إيَّاهُ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ لَفْظُ النَّقْصِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْقِصَهُ شَيْئًا مَا، وَمَنْ رَوَاهُ: «لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي» ، يُحْمَلُ عَلَى مَا عِنْدَهُ كَمَا فِي هَذَا اللَّفْظِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " مِمَّا عِنْدِي " فِيهِ تَخْصِيصٌ، لَيْسَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: " مِنْ مُلْكِي ".
وَقَدْ يُقَالُ: الْمُعْطَى إمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ صِفَاتٍ قَائِمَةً بِغَيْرِهَا، فَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَقَدْ تُنْقَلُ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَيَظْهَرُ النَّقْصُ فِي الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَلَا تُنْقَلُ مِنْ مَحَلِّهَا وَإِنْ وُجِدَ نَظِيرُهَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ، كَمَا يُوجَدُ نَظِيرُ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ فِي قَلْبِ الْمُتَعَلِّمِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ عِلْمِ الْمُعَلِّمِ، وَكَمَا يَتَكَلَّمُ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا فَالصِّفَاتُ لَا تَنْقُصُ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْئًا، وَهِيَ مِنْ الْمَسْئُولِ كَالْهُدَى. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ هُوَ مِنْ الْمُمْكِنِ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَنْ لَا يَثْبُتَ مِثْلُهَا فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي حَتَّى تَزُولَ عَنْ الْأَوَّلِ كَاللَّوْنِ الَّذِي يَنْقُصُ، وَكَالرَّوَائِحِ الَّتِي تَعْبَقُ بِمَكَانٍ وَتَزُولُ، كَمَا دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حُمَّى الْمَدِينَةِ أَنْ تُنْقَلَ إلَى مَهْيَعَةٍ وَهِيَ الْجُحْفَةُ، وَهَلْ مِثْلُ هَذَا الِانْتِقَالِ بِانْتِقَالِ عَيْنِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ عَيْنِهِ؟ فِيهِ لِلنَّاسِ قَوْلَانِ: إذْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ انْتِقَالَ الْأَعْرَاضِ، بَلْ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ تُجْعَلَ الْأَعْرَاضُ أَعْيَانًا، كَمَا هُوَ قَوْلُ ضِرَارٍ وَالنَّجَّارِ وَأَصْحَابِهِمَا كَبُرْغُوثٍ وَحَفْصِ الْفَرْدِ. لَكِنْ إنْ قِيلَ: هُوَ بِوُجُودِ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ عَنْهُ، فَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ وَفَنَائِهِ، فَيُعْدَمُ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَيُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute