للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، بَلْ وَلَا مِنْ الذُّنُوبِ، وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بَعْدَ الرُّسُلِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ لَمَّا عَبَّرَ الرُّؤْيَا: «أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا» .

وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا، أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ حَكَاهُ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ: الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ.

وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ، مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى عَزْمِهِ بِالرِّضَا بِذَلِكَ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَزْمَ لَا يَسْتَمِرُّ، بَلْ يَنْفَسِخُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَ تَرْكُهَا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَدْرَكَةٌ، كَمَا اسْتَدْرَكَتْ دَعْوَى سَمْنُونٍ، وَرُوَيْمٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتِلْكَ فَرْقًا عَظِيمًا، فَإِنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَضْمُونُهَا أَنَّ مَنْ سَأَلَ الْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ مِنْ النَّارِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا.

وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا إذْ أَفْعَلُ كَذَا كُنْت رَاضِيًا، وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: لَا يَكُونُ رَاضِيًا إلَّا مَنْ لَا يَطْلُبُ خَيْرًا، وَلَا يَهْرُبُ مِنْ شَرٍّ. وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ كَانَ أَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمَشَايِخِ وَسَادَاتِهِمْ، وَمِنْ أَتْبَعِهِمْ لِلشَّرِيعَةِ، حَتَّى إنَّهُ قَالَ: " إنَّهُ لَيَمُرُّ بِقَلْبِيِّ النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "، فَمَنْ لَا يَقْبَلُ نُكَتَ قَلْبِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا: لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرٍ، فَإِذَا سَمِعَ فِيهِ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ، بَلْ صَاحِبُهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيُّ كَانَ مِنْ أَتْبَعْ الْمَشَايِخِ لِلسُّنَّةِ، فَكَيْفَ أَبُو سُلَيْمَانَ.

وَتَمَامُ تَزْكِيَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَظْهَرُ بِالْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ كَائِنًا مَنْ كَانَ: " الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ ". وَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ تَبَيَّنَ بِهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِاضْطِرَابِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>