الْمَرْأَةِ إلَيْهِ فَرَجَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَإِنَّهُمَا قَدْ تَرَاجَعَا، كَمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالْعَقْدِ بِاخْتِيَارِهِمَا بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَأَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ مِنْ الطَّلَاقِ: هِيَ الرَّدُّ، وَالْإِمْسَاكُ. وَتُسْتَعْمَلُ فِي اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: ٣٧] . وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَلَاقٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ٢٢٩] . وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ. وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ، وَيُؤْمَرُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِالْإِشْهَادِ، وَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» ، وَلَمْ يَقُلْ: لِيَرْتَجِعَهَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ: كَانَ ارْتِجَاعُهَا لِيُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي زِيَادَةً وَضَرَرًا عَلَيْهَا وَزِيَادَةً فِي الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَا لَهُ وَلَا لَهَا؛ بَلْ فِيهِ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ بِارْتِجَاعِهِ لِيُطَلِّقَ مَرَّةً ثَانِيَةً زِيَادَةَ ضَرَرٍ، وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْ الطَّلَاقِ؛ بَلْ أَبَاحَهُ لَهُ فِي اسْتِقْبَالِ الطُّهْرِ مَعَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا، وَأَنْ يُؤَخِّرَ الطَّلَاقَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُبَاحُ فِيهِ، كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا قَبْلَ وَقْتِهِ أَنْ يَرُدَّ مَا فَعَلَ وَيَفْعَلَهُ إنْ شَاءَ فِي وَقْتِهِ. لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَأَمْرُهُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَاقِ إلَى الطُّهْرِ الثَّانِي لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْوَطْءِ فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ. فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا قَبْلَ الْوَطْءِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِ بِإِمْسَاكِهَا إلَيْهِ إلَّا بِزِيَادَةِ ضَرَرٍ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الْأَوَّلِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ مُعَاقَبَةٌ لَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاسْتِيفَاءُ كَلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَمَأْخَذِهَا. لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ؛ بَلْ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute