للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْتَبُ فِيهِ صَدَاقٌ كَمَا تُكْتَبُ الدُّيُونُ، وَلَا كَانُوا يَشْهَدُونَ فِيهِ لِأَجْلِ الصَّدَاقِ، بَلْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ عُرِفُوا بِهِ، وَيَسُوقُ الرَّجُلُ الْمَهْرَ لِلْمَرْأَةِ فَلَا يَبْقَى لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ رَسُولُ اللَّهِ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الْكَاتِبَ وَالشُّهُودَ كَمَا ذَكَرَهُمْ فِي الرِّبَا.

وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ حَدِيثٌ. وَنِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

فَقِيلَ: يَجِبُ الْإِعْلَانُ أَشْهَدُوا أَوْ لَمْ يُشْهِدُوا، فَإِذَا أَعْلَنُوهُ وَلَمْ يُشْهِدُوا تَمَّ الْعَقْدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ.

وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِشْهَادُ: أَعْلَنُوهُ أَوْ لَمْ يُعْلِنُوهُ، فَمَتَى أَشْهَدُوا وَتَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ.

وَقِيلَ: يَجِبُ الْأَمْرَانِ الْإِشْهَادُ وَالْإِعْلَانُ. وَقِيلَ: يَجِبُ أَحَدُهُمَا. وَكِلَاهُمَا يُذْكَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.

وَأَمَّا نِكَاحُ السِّرِّ الَّذِي يَتَوَاصَوْنَ بِكِتْمَانِهِ وَلَا يُشْهِدُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ السِّفَاحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: ٢٤] {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: ٥] () . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعِهَا.

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْمَرْجُوحَةِ، وَأَنَّ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا فَرَّقَهُ فِي شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْكَمَالِ؛ إذْ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، فَكَمُلَ بِهِ الْأَمْرُ، كَمَا كَمُلَ بِهِ الدِّينُ.

فَكِتَابُهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ، وَشَرْعُهُ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ، وَمِنْهَاجُهُ أَفْضَلُ الْمَنَاهِجِ، وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ وَلَكِنْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: ٧٨] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٩]

<<  <  ج: ص:  >  >>