فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّمَا نُسَمِّي ذَلِكَ كِنَايَةً، وَأَنَّ الْكِنَايَةَ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَمَذْهَبُهُمَا الْمَشْهُورَانِ دَلَالَةُ الْحَالِ فِي الْكِنَايَاتِ تَجْعَلُهَا صَرِيحَةً وَيَقُومُ مَقَامَ إظْهَارِ النِّيَّةِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْكِنَايَاتِ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِهِمَا مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ فِي النِّكَاحِ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِذَلِكَ، وَالتَّحَدُّثِ بِمَا اجْتَمَعُوا، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَلَّكْتُكهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، عَلِمَ الْحَاضِرُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِنْكَاحُ، وَقَدْ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى سَمَّوْا عَقْدَهُ أَمْلَاكًا وَمُلَّاكًا، وَلِهَذَا رَوَى النَّاسُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَاطِبِ الْوَاهِبَةِ الَّذِي الْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ تَارَةً: «بِأَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» ، وَتَارَةً: " مَلَّكْتُكهَا "، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَثْبُتُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَلَّكْتُكهَا، بَلْ إمَّا قَالَهُمَا جَمِيعًا أَوْ قَالَ أَحَدَهُمَا.
لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظَانِ عِنْدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ سَوَاءً، رَوَوْا الْحَدِيثَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، ثُمَّ تَعَيَّنَ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ أُصُولِ أَحْمَدَ وَنُصُوصِهِ وَعَنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، إذْ النِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَهُوَ إنْ كَانَ قُرْبَةً فَإِنَّمَا هُوَ كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظٌ لَا عَرَبِيٌّ وَلَا عَجَمِيٌّ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْوَقْفُ وَالْهِبَةُ لَا يَتَعَيَّنُ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْعَجَمِيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فِي الْحَالِ قَدْ لَا يَفْهَمُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ كَمَا يَفْهَمُ مِنْ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: يُكْرَهُ الْعُقُودُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا يُكْرَهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لَكِنْ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ الْمُخَاطَبَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إلَى عَادَتِهِمْ كَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُمْ، جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ إذَا تَسَلَّمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا، إذَا لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute