للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الزَّرْعِ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مِنْ الْحَبِّ، وَالْحَبُّ يَسْتَحِيلُ فَلَا يَبْقَى، بَلْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ وَيُحِيلُهُ كَمَا يُحِيلُ أَجْزَاءً مِنْ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَكَمَا يُحِيلُ الْمَنِيَّ وَسَائِرَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ، وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَبَّ وَالنَّوَى فِي الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْبَاقِي تَبَعٌ حَتَّى قَضَوْا فِي مَوَاضِعَ بِأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ لِرَبِّ النَّوَى وَالْحَبُّ، مَعَ قِلَّةِ قِيمَتِهِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ أَرْضِهِ.

وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَضَى بِضِدِّ هَذَا حَيْثُ قَالَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ» . فَأَخَذَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ مَنْ أَخَذَ بِهِ يَرَى أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ، وَهَذَا لِمَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ تَبَعٌ لِلْبَذْرِ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلنَّوَى، وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، فَإِنَّ إلْقَاءَ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ يُعَادِلُهُ إلْقَاءُ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ سَوَاءٌ.

وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ حَرْثًا فِي قَوْلِهِ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: ٢٢٣] كَمَا سَمَّى الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ حَرْثًا، وَالْمُغَلَّبُ فِي مِلْكِ الْحَيَوَانِ إنَّمَا هُوَ جَانِبُ الْأُمِّ، وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْآدَمِيُّ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ دُونَ أَبِيهِ، وَيَكُونُ جَنِينُ الْبَهِيمَةِ لِمَالِكِ الْأُمِّ دُونَ الْعِجْلِ الَّذِي نَهَى عَنْ عَسْبِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأُمِّ أَضْعَافُ الْأَجْزَاءِ الَّتِي اسْتَمَدَّهَا مِنْ الْأَبِ، وَإِنَّمَا لِلْأَبِ حَقُّ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْحَبُّ وَالنَّوَى، فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الشَّجَرُ وَالزَّرْعُ أَكْثَرُهَا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَقَدْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَيَضْعُفُ بِالزَّرْعِ فِيهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ تَسْتَخْلِفُ دَائِمًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَزَالُ يَمُدُّ الْأَرْضَ بِالْمَاءِ وَبِالْهَوَاءِ وَبِالتُّرَابِ، إمَّا مُسْتَحِيلًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِمَّا بِالْمَوْجُودِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ التُّرَابِيَّةِ شَيْئًا إمَّا لِلْخَلَفِ بِالِاسْتِحَالَةِ وَإِمَّا لِلْكَثْرَةِ.

وَلِهَذَا صَارَ يَظْهَرُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْأَرْضِ فِي مَعْنَى الْمَنَافِعِ بِخِلَافِ الْحَبِّ وَالنَّوَى

<<  <  ج: ص:  >  >>