وَهَذَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِيهِ مِنْ التَّنْكِيلِ عَلَى الْجَرِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا شَرَعَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي إتْلَافِ النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَكَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ يَحْرُمُ إلَّا بِنَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} [المائدة: ٣٢] .
وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: ٣٠] .
فَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ، إنَّمَا يُبَاحُ قِصَاصًا، أَوْ لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ كَمَا أَبَحْنَا مِنْ إتْلَافِ الْبِنَاءِ، وَالْغِرَاسِ الَّذِي لِأَهْلِ الْحَرْبِ، مِثْلَ مَا يَفْعَلُونَ بِنَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَجَوَّزْنَا لِإِفْسَادِ مَالِكِهِ مَا جَوَّزْنَا، وَلِهَذَا لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ قَالَ إنَّ الْأَمْوَالَ الْمُحْتَرَمَةَ الْمَجْهُولَةَ الْمَالِكِ تَتْلَفُ. وَإِنَّمَا يُحْكَى بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْغَالِطِينَ مِنْ الْمُتَوَرِّعَةِ أَنَّهُ أَلْقَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ أَوْ أَنَّهُ تَرَكَهُ فِي الْبَرِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ تَجِدُ مِنْهُمْ حُسْنَ الْقَصْدِ، وَصِدْقَ الْوَرَعِ، لَا صَوَابَ الْعَمَلِ.
وَأَمَّا حَبْسُهَا دَائِمًا أَبَدًا إلَى غَيْرِ غَايَةٍ مُنْتَظَرَةٍ، بَلْ مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُرْجَى مَعْرِفَةُ صَاحِبِهَا وَلَا الْقُدْرَةُ عَلَى إيصَالِهَا إلَيْهِ، فَهَذَا مِثْلُ إتْلَافِهَا، فَإِنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا حَرُمَ لِتَعْطِيلِهَا عَنْ انْتِفَاعِ الْآدَمِيِّينَ بِهَا، وَهَذَا تَعْطِيلٌ أَيْضًا بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلنُّفُوسِ بِإِبْقَاءِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الظَّلَمَةِ بَعْدَ هَذَا إذَا لَمْ يُنْفِقْهَا أَهْلُ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَيَكُونُ حَبْسُهَا إعَانَةً لِلظَّلَمَةِ وَتَسْلِيمًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الظَّلَمَةِ، فَيَكُونُ قَدْ مَنَعَهَا أَهْلَ الْحَقِّ، وَأَعْطَاهَا أَهْلَ الْبَاطِلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ فِي هَذَا، فَإِنَّ مَنْ وَضَعَ إنْسَانًا بِمَسْبَعَةٍ فَقَدْ قَتَلَهُ، وَمَنْ أَلْقَى اللَّحْمَ بَيْنَ السِّبَاعِ فَقَدْ أَكَلَهُ، وَمَنْ حَبَسَ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِمَنْ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا مِنْ الظَّلَمَةِ فَقَدْ أَعْطَاهُمُوهَا.
فَإِذَا كَانَ إتْلَافُهَا حَرَامًا وَحَبْسُهَا أَشَدُّ مِنْ إتْلَافِهَا تَعَيَّنَ إنْفَاقُهَا، وَلَيْسَ لَهَا مَصْرِفٌ مُعَيَّنٌ، فَتُصْرَفُ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْقُرَبِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute