قَطْعِيَّانِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ مَا لَا يُعْلَمُ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَالٍ هُوَ فِي حَقِّنَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ، فَلَا نُكَلَّفُ إلَّا بِمَا نَعْلَمُهُ وَنَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَكَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّنَا بَيْنَ فِعْلٍ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ، وَبَيْنَ فِعْلٍ أُمِرْنَا بِهِ جُمْلَةً عِنْدَ فَوْتِ الْعِلْمِ أَوْ الْقُدْرَةِ، كَمَا فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَالْعَاجِزِ، كَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِي حَقِّنَا بَيْنَ مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ أُمِرْنَا بِإِيصَالِهِ إلَيْهِ، وَبَيْنَ مَا أُمِرْنَا بِإِيصَالِهِ إلَى مَالِكِهِ جُمْلَةً إذَا فَاتَ الْعِلْمُ بِهِ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، وَالْأَمْوَالُ كَالْأَعْمَالِ سَوَاءٌ.
وَهَذَا النَّوْعُ إنَّمَا حَرُمَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْغَيْرُ مَعْدُومًا أَوْ مَجْهُولًا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ مَعْجُوزًا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ: يَسْقُطُ حَقُّ تَعَلُّقِهِ بِهِ مُطْلَقًا، كَمَا يَسْقُطُ حَقُّ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ إذَا رُجِيَ الْعِلْمُ بِهِ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، إلَى حِينِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي اللُّقَطَةِ سَوَاءٌ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَهِيَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» .
فَإِنَّهُ لَوْ عُدِمَ الْمَالِكُ انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ إذَا عُدِمَ الْعِلْمُ بِهِ إعْدَامًا مُسْتَقِرًّا، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْإِيصَالِ إلَيْهِ إعْجَازًا مُسْتَقِرًّا، فَالْإِعْدَامُ ظَاهِرٌ، وَالْإِعْجَازُ مِثْلُ الْأَمْوَالِ الَّتِي قَبَضَهَا الْمُلُوكُ: كَالْمُكُوسِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَصْحَابِهَا، وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنَا إعَادَتُهَا إلَى أَصْحَابِهَا، فَإِنْفَاقُهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا مِنْ الْجِهَادِ عَنْهُمْ أَوْلَى مِنْ إبْقَائِهَا بِأَيْدِي الظَّلَمَةِ يَأْكُلُونَهَا، وَإِذَا أُنْفِقَتْ كَانَتْ لِمَنْ يَأْخُذُهَا بِالْحَقِّ مُبَاحَةً، كَمَا أَنَّهَا عَلَى مَنْ يَأْكُلُهَا بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمَةٌ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: الْقِيَاسُ، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ لَا تَخْلُو: إمَّا أَنْ تُحْبَسَ، وَإِمَّا أَنْ تَتْلَفَ، وَإِمَّا أَنْ تُنْفَقَ.
فَأَمَّا إتْلَافُهَا فَإِفْسَادٌ، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَهُوَ إضَاعَةٌ لَهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ: تَجُوزُ الْعُقُوبَاتُ الْمَالِيَّةُ تَارَةً بِالْأَخْذِ، وَتَارَةً بِالْإِتْلَافِ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ فِي مَتَاعِ الْفَسَادِ، وَكَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَمَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَوْعِيَةِ الْخَمْرِ، وَمَحِلِّ الْخَمَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْأَمْوَالِ أَحْيَانَا كَالْعُقُوبَةِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ النُّفُوسِ أَحْيَانًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute