وَهَؤُلَاءِ خَرَجُوا عَلَى عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَتَلَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ جَمِيعَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ صَوْمِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ، فَأُخْرِجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ عَنَاءٌ وَوَرَعٌ وَزُهْدٌ لَكِنْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَطَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِذَوِي الْحَاجَاتِ، وَأَنَّ إعْطَاءَ السَّادَةِ الْمُطَاعِينَ الْأَغْنِيَاءَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ فَإِنَّمَا الْعَطَاءُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَصْلَحَةِ دِينِ اللَّهِ، فَكُلَّمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْوَعُ وَلِدِينِ اللَّهِ أَنْفَعُ كَانَ الْعَطَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَعَطَاءُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَقَمْعِ أَعْدَائِهِ وَإِظْهَارِهِ وَإِعْلَائِهِ أَعْظَمُ مِنْ إعْطَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَحْوَجَ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، دُونَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَمَا نَقَلَهُ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ، فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ فِي الْعَطَاءِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَفِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، إلَّا أَنْ تَسْتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ فَيَقِفُهَا، وَذُكِرَ فِي الْأُمِّ " أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِوَقْفِهَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ نُقِضَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ» ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا الشَّافِعِيَّ فِي ذَلِكَ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ جَعْلِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَيْئًا حَسَنٌ جَائِزٌ، وَأَنَّ عُمَرَ حَبَسَهَا بِدُونِ اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِ الْغَانِمِينَ، وَلَا نِزَاعَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ فَتَحَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ عَنْوَةً، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ، وَغَيْرِهَا لَمْ يَقْسِمْهَا عُمَرُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَإِنَّمَا قَسَمَ الْمَنْقُولَاتِ.
لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ صَنَّفَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِمَا نَازَعَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى حُجَجِهِ.
وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَالْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ، هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ فِيهَا مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَسْمِهَا أَوْ حَبْسِهَا، فَإِنْ رَأَى قَسْمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَدَعَهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ.
وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ بِنِصْفِ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُ قَسَمَ نِصْفَهَا وَحَبَسَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ، وَأَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً وَلَمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute