للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِانْدِرَاجِهِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ قِيلَ لَهُ: اللَّفْظُ الْعَامُّ لَمْ يَنْقَطِعُ وَيُسْكَتُ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْمَلَ بِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا قَيَّدَهُ وَخَصَّصَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بَعْضُ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ؛ وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.

وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْهَرَ الْمُتَكَلِّمَ فِي هَذَا فَالْكَثِيرُ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي يَصِلُ فِيهَا الْكَلَامُ الْعَامُّ أَوْ الْمُطْلَقُ بِمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ: مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: وَقَفْت عَلَى الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ اسْتَحَقَّ. أَوْ وَقَفْت عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاوَرَ بِالْحَرَمَيْنِ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ. أَوْ تَقُولُ: عَلَى أَنْ يُجَاوِرَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَشْهَدُونَ الدَّرْسَ فِي كُلِّ غَدَاةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَدَ وَالْإِحْصَاءَ.

وَمِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ بَعْضُ الْأَذْهَانِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَحْسِبَ أَنَّ بَيْنَ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَآخِرِهِ تَنَاقُضًا أَوْ تَعَارُضًا. وَهَذَا شُبْهَةٌ مِنْ شُبُهَاتِ بَعْضِ الطَّمَاطِمِ مِنْ مُنْكِرِي الْعُمُومِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّيَغُ عَامَّةً لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُجُوعًا أَوْ نَقْضًا. وَهَذَا جَهْلٌ؛ فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ مَعَ جَوَازِ وُرُودِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: ١٤] وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي الْمُوجِبِ مُطْلَقَةٌ مَعَ جَوَازِ تَقْيِيدِهَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: ٩٢] .

وَإِنَّمَا أُتِيَ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ تَوَهَّمُوا أَنَّ الصِّيَغَ إذَا قِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ: قِيلَ: إنَّهَا عَامَّةٌ مُطْلَقًا. وَإِذَا قِيلَ: إنَّهَا عَامَّةٌ مُطْلَقًا، ثُمَّ رَفَعَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْضَ مُوجِبِهَا: فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ الْمَرْفُوعِ الْعُمُومُ الْمُثْبِتُ لَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ النَّافِي لَهُ. وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ، أَوْ رُجُوعٌ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا قِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فَمِنْ شَرْطِ عُمُومِهَا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً عَنْ صِلَةٍ مُخَصِّصَةٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لَا عَامَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ تَخْتَلِفُ دَلَالَتُهُ بِحَسَبِ إطْلَاقِهِ وَتَقْيِيدِهِ؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ: لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ النَّقْدِ الْفُلَانِيِّ. أَوْ مُكَسَّرَةٌ، وَسُودٌ، أَوْ نَاقِصَةٌ، أَوْ طَبَرِيَّةٌ، أَوْ أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: كَانَ مُقِرًّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُقَيِّدَةِ. وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُجُوعًا لَمَا قُبِلَ فِي الْإِقْرَارِ؛ إذْ لَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْمُقِرِّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>