للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ تَحْرِيمًا، وَالتَّوَرُّعُ فِيهِ مَشْهُورٌ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَحْتَرِزُونَ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَالثِّيَابِ مِنْ الشُّبُهَاتِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْفِ الْخَبَثِ. وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يُذَكُّوهُ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ، أَوْ يُسَمُّوا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ، وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ سَمُّوا عَلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ حَرُمَ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يُأْتَوْنَ بِاللَّحْمِ وَلَا يُدْرَى أَسَمَّوْا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» .

وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ طَهُورٌ، وَلَكِنْ إذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ وَظَهَرَتْ فِيهِ صَارَ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا لِذَلِكَ الْخَبِيثِ، فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ الْخَبِيثِ؛ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَبِيثٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مُخَالَطَةِ الْخَبِيثِ لَهُ، كَانَ هَذَا التَّقْدِيرُ وَالِاحْتِيَالُ مَعَ طَيِّبِ الْمَاءِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ فِيهِ مِنْ بَابِ الْحَرَجِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَنْ شَرِيعَتِنَا، وَمِنْ بَابِ الْآصَارِ، وَالْأَغْلَالِ الْمَرْفُوعَةِ عَنَّا.

وَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَاحِبٌ لَهُ بِمِيزَابٍ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مِلْؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لَا تُخْبِرُهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَئِمَّةُ: كَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ، نَصُّوا عَلَى: أَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ، وَلَا أَمَارَةَ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يَلْزَمْ السُّؤَالُ عَنْهُ، بَلْ يُكْرَهُ وَإِنْ سَأَلَ فَهَلْ يَلْزَمُ رَدُّ الْجَوَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ السُّؤَالَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ هُنَا مُنْتَفِيَةٌ، أَوْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>