بَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ، وَبَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ.
وَالْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ نَوْعَانِ لِلْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، لَيْسَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ.
فَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ الضَّرُورَةَ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ، وَالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ انْقِسَامَ الْمَوْجُودِ إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ، وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ، كَانْقِسَامِ الْكَلَامِ إلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، أَوْ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ، أَوْ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ.
فَمَنْ قَالَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ، فَهُوَ كَمَنْ قَالَ الْمَوْجُودُ وَاحِدٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ، أَوْ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ، وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا تَؤَوَّلُ إلَى تَعْطِيلِ الْخَالِقِ، فَحَقِيقَةُ هَذَا تَؤَوَّلُ إلَى تَعْطِيلِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ.
وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي أَنْكَرَ الْخَالِقَ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى، وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ بِمُحَقِّقِ هَؤُلَاءِ إلَى تَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَتَوَلِّيهِ وَتَصْدِيقِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: ٢٤] بَلْ إلَى تَعْظِيمِهِ عَلَى مُوسَى، وَإِلَى الِاسْتِحْقَارِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَيْضًا: فَيُقَالُ مَا يَقُولُ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، كَمَا قَدْ يُنْقَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُسْمَعُ مِنْ الرُّوَاةِ أَوْ الْمُبَلِّغِينَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ بِصَوْتِ الْمُبَلِّغِ، هُوَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ أَوْ كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامًا لِكُلِّ مَنْ سُمِعَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ أَلْفِ أَلْفِ قَارِئٍ، لَا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .
كَلَامَ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ لَا كَلَامَ الرَّسُولِ، وَحِينَئِذٍ لَا فَضِيلَةَ لِلْقُرْآنِ فِي: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: ٤٠] فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْلُ كُلِّ مُنَافِقٍ قَرَأَهُ، وَالْقُرْآنُ يَقْرَؤُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute