{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: ٤٠] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: ٤١] {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ - تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: ٤٢ - ٤٣] .
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ، لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٣] ، فَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: ٤٠] .
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ١٩٢] ، وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إلَى وَاحِدٍ، فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ لَمْ يَكُنْ تَنْزِيلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَلْ كَانَ يَكُونُ تَنْزِيلًا مِنْ الرَّسُولِ.
وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا فِي هَذَا إلَى غَيْرِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْآخَرُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الضَّمِيرَيْنِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَقُلْ لَهُ: هَذَا الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الرَّسُولُ الْمَلَكُ، أَوْ الْبَشَرُ عَلَى زَعْمِك، أَمْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ.
فَإِنْ جَعَلْتَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ جِبْرِيلَ أَوْ الرَّسُولِ عِبَارَةً عَنْ عِبَارَةِ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّهُ مَتَى قَالَ إنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ جَمِيعَهُ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ جَمِيعَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ الرَّسُولِ جَمِيعًا فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ، وَبَعْدَ هَذَا فَقَوْلُهُ عِبَارَةٌ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّبْلِيغِ وَالْمُبَلِّغِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَإِنْ قُلْت: لَيْسَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ.
فَقَدْ جَعَلْتَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ هُوَ بِعَيْنِهِ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ.
إذْ جَعَلْتَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا عِبَارَةَ جِبْرِيلَ.
فَحِينَئِذٍ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ قَوْلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ بِالْعِبَارَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ إنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ. وَحُرُوفَهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ.
فَأَخَذَ بِنِصْفِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنِصْفِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةَ.
وَأَثْبَتَ الْعُلُوَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَمُبَايَنَتَهُ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَقَرَّرَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا