للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُبَلَّغُ شِعْرُ حَسَّانَ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَلَبِيدً وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشُّعَرَاءِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا هُوَ شِعْرُ حَسَّانَ.

وَهَذَا شِعْرُ لَبِيدٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

وَمَعَ هَذَا فَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ رُوَاةَ الشِّعْرِ وَمُنْشِدِيهِ لَمْ يَسْلُبُوا الشُّعَرَاءَ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ حِينَ حَلَّتْ، بَلْ وَلَا عَيْنَ مَا قَامَ بِأُولَئِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ كَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ حَلَّتْ بِالرُّوَاةِ وَالْمُنْشِدِينَ، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي: كَلَامَهُ أَوْ غَيْرَ كَلَامِهِ فَارَقَ ذَاتَه، وَحَلَّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّ مَا قَامَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هِيَ صِفَاتُ الْبَارِي حَلَّتْ فِيهِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ.

بَلْ يُمَثِّلُونَ الْعِلْمَ بِنُورِ السِّرَاجِ يُقْتَبَسُ مِنْ الْمُتَعَلِّمِ، وَلَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ الْعَالِمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْمُقْتَبِسُ ضَوْءَ السِّرَاجِ.

فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ ضَوْءًا، كَمَا يَقُولُ إنَّ الْهَوَى يَنْقَلِبُ نَارًا بِمُجَاوَرَةِ الْفَتِيلَةِ لِلْمِصْبَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ.

وَالْمُقْرِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْءٌ.

بَلْ يَصِيرُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ مِثْلَ مَا عِنْدَهُ.

وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْقُلُ عِلْمَ فُلَانٍ وَيَنْقُلُ كَلَامَهُ، وَيُقَالُ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ فُلَانٍ صَارَ إلَى فُلَانٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

كَمَا يُقَالُ نَقَلْت مَا فِي الْكِتَابِ، وَنَسَخْت مَا فِي الْكِتَابِ، أَوْ نَقَلْت الْكِتَابَ وَنَسَخْته.

وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ إلَّا نَفْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَدِمَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ فِي الثَّانِي.

بَلْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُتُبِ وَنَقْلِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَجْعَلَ فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا فِي الْأَوَّلِ، فَيَبْقَى الْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ مَنْقُولًا مَنْسُوخًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَوَّلُ.

بِخِلَافِ نَقْلِ الْأَجْسَامِ وَتَوَابِعِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ زَالَ عَنْ الْأَوَّلِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَهُوَ وُجُودُهَا الْعَيْنِيُّ.

أَوَّلُهَا ثُبُوتُهَا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ فِي اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ، ثُمَّ فِي الْخَطِّ.

وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ.

وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ.

وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ.

وَوُجُودٌ فِي الْبَيَانِ، وَوُجُودٌ عَيْنِيٌّ.

وَوُجُودٌ عِلْمِيٌّ.

وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ.

وَلِهَذَا افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: ١] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: ٢] {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: ٣] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: ٤] {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ٥]

<<  <  ج: ص:  >  >>