وَقَالُوا لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحُلُولُ الْمَحْذُورُ الَّذِي نَفَيْنَاهُ، بَلْ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ.
وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي الصَّحِيفَةِ أَوْ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ، كَذَلِكَ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ حَالٌّ فِي ذَلِكَ دُونَ حُلُولِ ذَاتِهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ قَالُوا لَا نُطْلِقُ الْحُلُولَ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا.
لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُوهِمُ انْتِقَالَ صِفَةِ الرَّبِّ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ.
وَنَفْيَ ذَلِكَ يُوهِمُ نَفْيَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إلَى الْخَلْقِ.
فَنُطْلِقُ مَا أَطْلَقَتْهُ النُّصُوصُ.
وَنُمْسِكُ عَمَّا فِي إطْلَاقِهِ مَحْذُورٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا.
فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْمُنْكَرَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فَإِذَا زَالَتْ لَمْ يَبْقَ مُنْكَرًا.
أَحَدُهَا: مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ.
وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُ اللَّهِ كَجِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ.
وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ.
الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا.
هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ، وَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ لَا بِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي.
فَيُجْعَلُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا.
وَكَذَلِكَ مَعْنَى آيَةِ الدِّينِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ.
كَمَنْ يَقُولُ إنَّ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعْنًى وَاحِدٌ فَمَعْنَى الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ مَعْنًى وَاحِدٌ.
فَهَذَا اتِّحَادٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
بَلْ كَلَامُ التَّالِينَ لَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرَ عَنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ.
نَقَلَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ تَارَةً يُسْمَعُ مِنْ اللَّهِ.
وَتَارَةً مِنْ رُسُلِهِ.
وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَكَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ يُتَكَلَّمُ.
لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ.
وَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَلَوْ قَرَأَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ وَسَمِعُوهُ، وَمَنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ وَسَائِرَ صِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ، فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا نَفَى الْحُلُولَ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ بَلَّغَتْهُ عَنْهُ رُسُلُهُ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ يُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ