للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: ٣٦ - ٣٧] وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ صَارَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ.

وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْطَقَ الْأَشْيَاءَ نُطْقًا مُعْتَادًا وَنُطْقًا خَارِجًا عَنْ الْمُعْتَادِ، قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: ٦٥] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: ٢٠] {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: ٢١] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: ٢٤] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: ١٨] ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَصَى كَانَ يُسَبِّحُ فِي يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْحَجَرَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ.

فَلَوْ كَانَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ قَدْ كَلَّمَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَكُلُّ نَاطِقٍ فَاَللَّهُ خَالِقٌ نُطْقَهُ وَكَلَامَهُ، فَلَوْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا خَلْفَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ، حَتَّى كَلَامِ إبْلِيسَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَقُولُهُ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ:

وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ

وَهَكَذَا أَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِنْ غُلَاةِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَجْعَلُونَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ، فَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ مَخْلُوقًا، وَأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>