مُسَيْلِمَةَ: " وَيْحَكُمْ أَيْنَ يَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، إنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ آنٍ "، أَيْ مِنْ رَبٍّ.
وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّهُ مِنْهُ خَرَجَ وَمِنْهُ بَدَأَ: أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَه وَيَحِلُّ بِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: ٥] فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهمْ.
وَأَيْضًا فَالصِّفَةُ لَا تُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ وَتَحِلُّ بِغَيْرِهِ، لَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَلَا صِفَةُ الْمَخْلُوقِ، وَالنَّاسُ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَلَّغُوهُ عَنْهُ، كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي بَلَّغُوهُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ بَلَّغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ، فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: ٦] .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» .
وَلَكِنَّ مَقْصُودَ السَّلَفِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ قَدْ ابْتَدَأَ وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ لَا مِنْ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُونَ كَلَامُهُ لِمُوسَى خَرَجَ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ بَدَأَ وَخَرَجَ، وَذَكَرُوا قَوْلَهُ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: ١٣] .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، " وَمِنْ " هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا عَيْنًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: ١٣] ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَسِيحِ رُوحٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute