للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ إنَّ سَيِّدَ الْأَعْضَاءِ وَرَأْسَهَا هُوَ الْقَلْبُ كَمَا سُمِّيَ قَلْبًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا، أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا» .

وَإِذْ قَدْ خُلِقَ لِيُعْلَمَ بِهِ فَتَوَجُّهُهُ نَحْوَ الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ، كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ، وَانْصِرَافُ الطَّرَفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ، فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ فِي شَيْءٍ، وَإِذَا عُلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ، كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، أَوْ الْعَيْنَ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ.

وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحِبَّ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ، كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ، وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ، وَعَكْسُهُ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ، وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ سَابِقَةُ فِكْرٍ كَمَنْ فَاجَأَتْهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ، أَوْ سَمِعَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ؛ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مِنْ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا.

وَقَدْ يَأْتِي فَضْلًا مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ مَوْهُوبًا فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ.

وَاَلَّذِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ، هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ، لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا، فَقَدْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَنْ لَا يَكُونُ عَاقِلًا لَهُ.

بَلْ غَافِلًا عَنْهُ، مُلْغِيًا لَهُ، وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبِطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ، فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا، فَيُطَابِقُ عَمَلُهُ قَوْلَهُ، وَبَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ.

وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩] .

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا، وَلَا يُؤْتَى حُكْمًا، وَإِنَّ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>