للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا مَعَ أَنَّ النَّاسَ مُتَبَايِنُونَ فِي نَفْسِ أَنْ يَعْقِلُوا الْأَشْيَاءَ مِنْ بَيْنِ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَفِيمَا يَعْقِلُونَهُ مِنْ بَيْنِ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَدَقِيقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُمَّهَاتُ مَا يُنَالُ بِهِ الْعِلْمُ.

يُدْرِكُ، أَعْنِي الْعِلْمَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، دُونَ مَا يُشَارِكُهُ فِيهِ، مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، وَهُنَا يُدْرِكُ بِهِ مَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ، وَمَا يُمَيِّزُ بِهِ مَنْ يُحْسِنُ إلَيْهَا وَيُسِيءُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: ٧٨] وَقَالَ: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة: ٩] وَقَالَ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: ٣٦] .

وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: ٢٦] .

وَقَالَ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: ٧] .

وَقَالَ فِيمَا لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْقُوَّةِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: ١٧٩] .

ثُمَّ إنَّ الْعَيْنَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَلْبِ وَالْأُذُنِ وَتُفَارِقُهُمَا فِي شَيْءٍ، وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا تُرَى بِهَا الْأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ وَالْأُمُورُ الْجِسْمَانِيَّةُ مِثْلُ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ، فَأَمَّا الْقَلْبُ وَالْأُذُنُ فَيُعْلَمُ بِهِمَا مَا غَابَ عَنْ الْإِنْسَانِ، وَمَا لَا مَجَالَ لِلْبَصَرِ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمَعَالِمِ الْمَعْنَوِيَّةِ.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتَرِقَانِ، فَالْقَلْبُ يَعْقِلُ الْأَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْعِلْمُ بِهَا هُوَ غِذَاؤُهُ وَخَاصِّيَّتُهُ: أَمَّا الْأُذُنُ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعِلْمِ إلَى الْقَلْبِ، فَهِيَ بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَنَالُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ، فَإِذَا وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْقَلْبِ أَخَذَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ، فَصَاحِبُ الْعِلْمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ الْقَلْبُ.

وَإِنَّمَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ حَجَبَتُهُ تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>